جدّة، المملكة العربية السعودية – كرّس أحمد بن قاسم الغامدي معظم مسيرته المهنية ليكون أحد رجال الهيئة الملتحين في المملكة العربية السعودية. وكان موظفًا ملتزمًا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تُعرف خارج المملكة باسم “الشرطة الدينية”، فعمل على الخطوط الأمامية لحماية المملكة التي تحكمها الشريعة الإسلامية من التغريب والعلمانية وأي أمر آخر يخرج عن أكثر الممارسات الإسلامية تشددًا.

وكانت بعض جوانب عمله تشبه مهام أي شرطة عادية بالفعل، كإلقاء القبض على تجار المخدرات ومهرّبي الخمور في بلدٍ يُمنع فيه شرب الكحول. إلا أنّ أعضاء “الهيئة”، كما يختصر اسمها السعوديون، يكرّسون معظم جهودهم للحفاظ على القواعد العامة المتزمتة التي تفصل المملكة العربية السعودية ليس عن الغرب فحسب بل عن أغلب دول العالم الإسلامي أيضًا.
وإحدى المخالفات الرئيسية التي تكافحها الهيئة هي الاختلاط، أي الاحتكاك غير المشروع بين الرجال والنساء، إذ ينذر علماء الدين في المملكة أنّ الاختلاط قد يؤدي إلى الفسق والزنا وتفكك الأسر وولادة أطفال غير شرعيين، وبالتالي إلى انهيار المجتمع ككل.

والتزم الغامدي بهذه المبادئ على مدى سنوات وتمّ تعيينه مديرًا عامًا للهيئة في منطقة مكة، وهي المدينة الأكثر قداسة لدى المسلمين. بيد أنّه في مرحلة ما، أعاد تقييم الوضع القائم وبدأ بالتشكيك في القواعد المفروضة فلجأ إلى القرآن وأحاديث النبي محمد والصحابة نظرًا إلى أنهم يعتبرون قدوةً في التصرف الإسلامي الصحيح. وتفاجئ بما وجد، لا بل شكّل ذلك الخطوة الأولى التي غيّرت حياته: فلقد اختلط المسلمون الأولون نساءً ورجالًا ولم يعارض ذلك أحد.
وما كان منه إلا أن عبّر عن استنتاجاته في المقالات الصحفية والمقابلات التلفزيونية حيث قال إنّ أغلب الممارسات الدينية التي يتبعها السعوديون تنبع في الواقع من الممارسات الثقافية العربية التي تخللت معتقداتهم الدينية عبر الزمن.
هذا وأضاف أنه ما من داعٍ لإغلاق المحلات والمتاجر في وقت الصلاة ولا إلى منع النساء من القيادة كما هي الحال في المملكة، مشيرًا إلى أن النساء كنّ يمتطين الجمال في عصر النبي، ما هو أكثر إثارةً برأيه من صورة نساء محجبات يقدن سيارات رباعية الدفع.
حتى أنه قال إنّ تغطية النساء لوجوههن ليس فريضة بل خيارًا، وبرهن مدى التزامه بهذا المعتقد عندما ظهر على شاشات التلفزيون مع زوجته جواهر التي ابتسمت للكاميرا ووجهها مكشوف ومزيّن بالماكياج.
وكانت تلك اللحظة أشبه بانفجار يدوّي وسط المؤسسات الدينية السعودية ويهدد النظام العام الذي يضمن وجاهة الشيوخ ويعيّنهم حكامًا في الحق والباطل في ما يخص كافة جوانب الحياة. كان انفجارًا يهدد سلطة الشيوخ وقبضتهم.
وبدأت العواقب تظهر مع رفض زملاء الغامدي أن يتكلموا معه وتلقيه مكالمات مليئة بالغضب وتهديدات بالقتل على حسابه على موقع تويتر، بالإضافة إلى استنكار بعض الشيوخ البارزين لأقواله مدعين أنه ليس إلا مبتدئًا جاهلًا في الفقه تجدر معاقبته ومحاكمته وحتى تعذيبه.
.

التحدّي في فهم الواقع

سافرتُ إلى المملكة العربية السعودية بهدف دراسة الوهابية، وهو تيار إسلامي سني متشدد جدًا غالبًا ما يُعتبر أنه يحفّز التعصّب حول العالم ويرعى الحركات الإرهابية. قضيت عدّة أسابيع في الرياض وجدّة وغيرها من المدن أتكلم مع عدد من الشيوخ والأئمة وعلماء الدين وغيرهم محاولًا فهم مختلف المستويات التي تشكّل المجتمع السعودي المنغلق الذي يعتزّ بخصوصيته.

وقد تبدو السعودية لأي زائر من الغرب كمزيج محيّر من التمدّن الحديث والثقافة الصحراوية والجهود اللامتناهية الرامية إلى الامتثال لتفسير متشدّد لنصوص كُتبت منذ أكثر من ألف سنة. هي مملكة لا ينقصها لا النفط ولا الثراء ولا ناطحات السحاب ولا السيارات رباعية الدفع ولا المراكز التجارية، وهي بلد يعود فيه الناس إلى القرآن أو أحاديث النبي محمد ليجدوا ما يبحثون عنه من إجابات حول كيفية استثمار أموالهم أو التعامل مع غير المسلمين أو حتى كيفية معاملة القطط.
يتخلل الدين في المملكة كل طيات الحياة اليومية، فتوظّف المصارف مثلًا رجال الدين لتضمن أنّها تلتزم بالشريعة الإسلامية وما من رؤوس على تماثيل عرض الأزياء في المتجار نظرًا للحساسيات الدينية المتعلقة بعرض شكل الإنسان. هذا وتذكر الكتب الدراسية بالتفصيل كيف يجب على الفتيان قصّ شعرهم وكيف يجب على الفتيات تغطية أجسادهن وكم من مرّة يتوجب على الرجل والمرأة تخفيف شعر العانة.
وفي حين أنّه من المفترض من الإسلام أن يشكل برنامجًا متكاملًا لحياة الإنسان، يبقى التفسير أساسيًا في ما يخصّ التطبيق. والتفسير السعودي للدين مشبّع بالتقاليد المحافظة التي يتسم بها وسط شبه الجزيرة العربية، لاسيما بالنسبة للعلاقات بين الرجل والمرأة.
فترتدي أغلب النساء في المرافق العامة العباءة السوداء المصممة لإخفاء معالم الجسم، كما يرتدين الحجاب لتغطية وجوههن وشعرهنّ باستثناء العينين. وتوفر المطاعم قسمًا خاصًا بـ”العائلات”، أي المجموعات التي تشمل النساء، وقسمًا آخر للـ”عزاب”، أي الرجال.
ويختلط الكثير من السعوديين في الأماكن الخاصة، بحيث يمكن للنساء والرجال عادةً الالتقاء في ردهات الفنادق من دون أي مشاكل تقريبًا. لكن بعضهم لا يريد الاختلاط ويرى أنّ عزل الجنسين جزء من الهوية الثقافية السعودية، حتى أنه في بعض الأوساط المحافِظة، قد يقضي الرجال معظم حياتهم من دون أن يروا وجه أي امرأة غير النساء أعضاء الأسرة المباشرة، وهذا يشمل عدم رؤية وجه زوجة الأخ مثلًا.
بالإضافة إلى ذلك، تُقمع كل الديانات الأخرى داخل المملكة، فلا يجد الزائر أي كنيسة ولا حتى محلات المأكولات السريعة “تشيرتشز تشيكن” نظرًا إلى أنّ كلمة “تشيرتش” في الإنكليزية تعني “كنيسة” (تُدعى سلسلة المطاعم هذه “دجاج تكساس” في السعودية). وعندما يُواجَه السعوديون بهذه الحقائق، ينكرون أنّ ذلك يدلّ على أي تعصّب ويقارنون بلدهم بالفاتيكان، قائلين إنه مكان فريد للمسلمين له قواعده الخاصة.
ولقد عبّر المسؤولون الذين قابلتهم خلال زيارتي عن استيائهم من تزايد اضطراب سمعة المملكة في الخارج وأكدوا مرارًا على دعمهم لـ”الإسلام الوسطي”.
لكن ماذا يعنون تحديدًا بعبارة “الإسلام الوسطي”؟ يظهر التعمّق في هذا المصطلح مدى اتساع الهوة بين المملكة العربية السعودية وحيلفها الأمريكي، إذ يقوم “الإسلام الوسطي” في المملكة بقطع رؤوس المجرمين علنًا وبمعاقبة المرتدّين ويمنع النساء من السفر إلى الخارج من دون موافقة “ولي أمر” ذكر.
أما حقوق مثليي الجنس، فليست مطروحة حتى على جدول الأعمال.
لم أسمع خلال زيارتي نداءات تحثّ على الجهاد لكنني سمعت رجال الدين يصرّون على ضرورة إطاعة المؤمنين للدولة. وتخاف العائلة المالكة كل الخوف من أن تُصاب المملكة بحمّة الجهاد التي تشهدها المنطقة فتهدد بالتالي سيطرتهم على البلاد، ما يدفعها إلى حشد كافة الأجهزة الدينية لاستنكار الجهاديين وأعمالهم وإعلان أنّ الواجب الديني هو طاعة الحاكم.
وفي حين أنّ إهانة المسيحيين واليهود كانت شائعة يومًا، لم أسمع إلا القليل من هذا الكلام لكنني سمعت الكثير منه موجهًا للمسلمين الشيعة الذي غالبًا ما يتم استهداف طائفتهم في سياق المنافسة القائمة مع إيران.
وحدهم الأطفال ألمحوا إلى أنني قد أكون كافرًا.
عرّفني يومًا صحفي سعودي بفخر إلى ابنته البالغة من العمر 9 سنوات، وكان قد ألحقها بمدرسة خاصة كي تتعلم الإنكليزية.
سألتها بالإنكليزية: “ما اسمك”؟
أجابت: “اسمي دانا”.
“كم عمرك”؟
“تسع سنوات”.
“متى عيد ميلادك؟”
احتارت في تلك اللحظة وأجابتني باللغة العربية: “لا نحتفل بذلك في السعودية، هذا من أعياد الكفار”.
تفاجأ والدها وسألها أين تعلمت ذلك فجلبت أحد كتبها المدرسية، وكان من إصدار الحكومة، وقلبت الصفحات إلى أن وصلت إلى درس بعنوان “الأعياد الممنوعة: عيد الميلاد وعيد الشكر”. كانت أعياد الميلاد الشخصية من ضمن ذلك الدرس.
تفاجأ والدها وسألها أين تعلمت ذلك فجلبت أحد كتبها المدرسية، وكان من إصدار الحكومة، وقلبت الصفحات إلى أن وصلت إلى درس بعنوان “الأعياد الممنوعة: عيد الميلاد وعيد الشكر”. كانت أعياد الميلاد الشخصية من ضمن ذلك الدرس.
وفي يوم آخر التقيت بصديق متديّن لتناول القهوة وكان يرافقه ابناه القاصران. وعندما حان وقت الصلاة توجه صديقي إلى المكان المخصص للصلاة فيما بدت علامات الحيرة على وجهي الصبيين إذ لاحظا أنني لم أستعد للصلاة فسألاني: “هل أنت كافر”؟

من هو الوهابي؟

أول ما يقوله العديد من السعوديون عن الوهابية هو أنها غير موجودة.

“ما من شيء اسمه الوهابية”، هذا ما قاله هشام آل الشيخ عندما التقينا أول مرة، مضيفًا أنّ “ما يوجد هو الاسلام الصحيح”.
أما المفارقة فهي أنّ ما من أحد له صلة أوثق بالوهابية أكثر من السيد آل شيخ نفسه إذ إنه ينتمي إلى السلالة المباشرة لرجل الدين المؤسس للحركة.
دعا الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر إلى حركة إصلاح دينية في وسط الجزيرة العربية استجابة إلى ما اعتبره فساد ناتج عن عدد من الممارسات كتعظيم الأولياء والأضرحة. فدعا إلى التخلي عن “البدع” والعودة إلى ما اعتبره الإسلام الصافي.
فشكل بالتالي تحالفًا مع قائد يُدعى محمد بن سعود وبات هذا التحالف مترسخًا في تاريخ المنطقة منذ ذلك الحين. وتولى آل سعود مقاليد الحكم السياسي فيما أضفى الشيخ عبد الوهاب وأولاده الشرعية على هذا الحكم وأداروا الشؤون الدينية.
وتبيّن أنه كان لهذا المزيج قوة كبيرة بين القبائل العربية المتحاربة إذ قدّم لهم رجال الدين الوهابيون ذريعة لشن الغزوات في بعض الأحيان. فكل من وقف في وجه آل سعود لم يكن عدوًا وحسب بل كان كافرًا يستحق أن يُقتل.
دمّر العثمانيون الدولة السعودية الأولى في العام 1818 وفشلت محاولات بناء دولة ثانية إلى مطلع القرن العشرين حين قاد الملك عبد العزيز آل سعود حملة نجحت في فرض سيطرته على معظم أراضي الجزيرة العربية.
بيد أنّ الملك واجه خيارين: إما الجهاد التوسعي الذي كان من المحتمل أن يؤدي إلى صراع مع بريطانيا، وإما بناء دولة حديثة. فاتبع المسار الثاني وحتى أنه أحبط مجموعة من المقاتلين في قواته رفضت أن تتوقف عن القتال.
وهذا التحالف بين الأسرة المالكة ورجال الدين مستمر منذ ذلك الحين مع أنّ المجتمع السعودي لا ينفك يشهد توترات بين السعي إلى تطبيق العقيدة الخالصة من جهة ومتطلبات الدولة الحديثة من جهة أخرى.
أما اليوم في العام 2016، فقد تغيرت الأطراف الفاعلة مع مرور السنين واكتشاف الثروة النفطية. نمت الأسرة المالكة وتحولت من سكان صحراء غير منظمين إلى عشيرة ممتدة تسكن القصور وتسافر في الطائرات الخاصة. كما تطورت المؤسسة الوهابية نفسها من حركة إصلاحية أصولية إلى بيروقراطية مضخّمة داخل الدولة.
فتتألف هذه المؤسسة اليوم من جامعات تخرّج طلاب متخصصين في العلوم الدينية، ونظام قانوني يطبّق قضاته الشريعة الإسلامية، ومجلس مؤلف من كبار العلماء يعملون كمستشارين للملك، وشبكة من المكاتب تصدر الفتاوى، وشرطة دينية تراقب السلوك العام، وآلاف الأئمة في المساجد ينقلون رسائل الحكومة من منابرهم.
ويعلو صوت الآذان خمس مرات في اليوم من المساجد وداخل المراكز التجارية، ويساعد وضوحه العديد من السعوديين على تنظيم أيامهم.
غالبًا ما سمعت الناس تقول لي “لنلتقِ بعد صلاة المغرب” وهي لا تعرف تحديدًا متى سيكون ذلك. فقمت بتحميل تطبيق على هاتفي الذكي يمكنني من البحث عن أوقات الصلاة ويطلق تنبيهًا عند بداية الآذان.
هكذا التقيت بالسيد آل الشيخ بعد صلاة المغرب، وهو فخور بكونه من الجيل السادس من سلالة محمد بن عبد الوهاب.
هو رجل ضخم البنية يبلغ من العمر 42 عامًا يرتدي ثوبًا أبيض وفوق رأسه شماغ، وله لحية طويلة من دون شوارب، تمثلًا بالنبي محمد. يحدق بعينيه إلى هاتفه من نوع آيفون من خلال نظارات موضوعة على أنفه.
جلسنا على أرائك بنفسجية اللون في ردهة بلا موسيقى في فندق في الرياض، وتناولنا التمر وشربنا القهوة وهو يجيب عن أسئلتي حول الإسلام في السعودية.
وقال لي في البداية: “أنا إنسان منفتح”.
وكان من الواضح أنه يأمل أن أعتنق الديانة الإسلامية.
لقد تمحورت حياته حول المؤسسات الدينية، لكن بالرغم من ذلك، اتضح أنه خير مثال عن مدى تعقيد بعض المصطلحات كـ”الحداثة” و”التقليد” في السعودية. وكان قد حفظ القرآن وهو فتى وتتلمذ على أيدي أبرز العلماء ومن ثم حاز شهادة دكتوراه في الشريعة وكتب أطروحته عن كيفية تغيير التكنولوجيا لتطبيق الشريعة.
وهو اليوم يتمتع بمسيرة مهنية ناجحة ويشغل عدة مناصب دينية. لقد درّب قضاة في المحاكم الشرعية، وعمل كمستشار لوزير الشؤون الإسلامية، وكتب دراسات لصالح علماء مستشارين لدى الملك وشغل منصبًا في مجلس الشريعة في شركة المتوسط والخليج للتأمين، ويخطب كل يوم الجمعة في مسجد قريب من منزل والدته كما يرحب بكل من يزور عمّه المفتي العام.
هذا بالإضافة إلى أنه سافر كثيرًا إلى الخارج وأخبرني عندما علم أنني أمريكي أنه يحب الولايات المتحدة. فقد زار أوريغون ونيويورك وماساتشوستس ولوس أنجلوس، وزار معبد يهودي في خلال إحدى رحلاته وكنيسة للأمريكيين من أصل أفريقي في رحلة أخرى، وزار مجتمعًا للآميش واندهش بما اكتشفه فعلًا.
كان له قريب يعيش في مونتغومري في ولاية آلاباما حيث قضى عدة أشهر مليئة بالسعادة وغالبًا ما كان يزور المركز الإسلامي هناك. أما أصعب ما اختبره في خلال رحلته فكان في شهر رمضان إذ لم يكن من السهل أن يجد مطعمًا يفتح أبوابه في ساعات متأخرة من دون تقديم الكحول.
فقال: “كان عندي آيهوب فقط”، مشيرًا إلى أحد مطاعم المأكولات السريعة.
وأضاف أن الإسلام لا يمنع إقامة علاقات عمل أو صداقة مع المسيحيين أو اليهود. وعبّر عن معارضته للمعتقدات والممارسات الشيعية لكنه قال إنه من الخاطئ اتباع خطى المتطرفين في تنظيم “الدولة الإسلامية” عبر تكفير مجموعات كاملة.
أما في ما يخص أعياد الميلاد، وهي مناسبات يندد بها العديد من رجال الدين السعوديين، فقال إنه لا يعارضها مع أن زوجته لا توافقه الرأي، ما يعني أن أولاده لا يحضرون حفلات أعياد الميلاد. إلا أنّهم يتمتعون باحتفالاتهم الخاصة وأراني فيديو مسجلًا على هاتفه تظهر فيه عائلته مجتمعة حول قطعة حلوى مرسوم عليها وجه ابنه عبدالله البالغ من العمر 15 عامًا للاحتفال بحفظه القرآن. أضاؤوا الشموع وأطلقوا الهتافات لكنهم لم يغنوا.
واحتار في ما يخص الموسيقى التي يمنعها العديد من الوهابيين وقال إنه لا يعارض تشغيل الموسيقى في الخلفية في المطاعم لكنه يعارض الموسيقى التي تضع سامعيها في حالة تشبه السكر وتدفعهم إلى القفز وتخبيط رؤوسهم. “عندنا شيء أفضل… يمكن أن تستمع إلى القرآن”.
ونظرًا إلى أنّ مكانة النساء هي نقطة مهمة تفصل المملكة العربية السعودية عن سائر الدول، أردت أن أتكلم إلى امرأة سعودية محافظة. إلا أنّ هذا الطلب لم يكن سهل التحقيق لأن أغلب النساء يرفضن الاجتماع بأي رجل ليس قريبًا لهن، فكيف بمراسل أمريكي غير مسلم. لذلك طلبت من السيدة شيخة الدوسري، وهي زميلة سعودية، أن تتصل بزوجة السيد آل الشيخ، مشاعل، التي وافقت على مقابلتي.
لكنني بالطبع طلبت إذن السيد آل الشيخ لمقابلتها.
“هي مشغولة جدًا”، قال لي ثم سارع إلى تغيير موضوع الكلام.
بالتالي التقت السيدة آل الشيخ مع السيدة الدوسري في مقهى للنساء في الرياض حيث تستطيع النساء الكشف عن وجوههن وشعرهن.
كان زواجها من السيد آل الشيخ زواجًا مرتبًا حيث التقت السيد آل الشيخ مرة واحدة لأقل من ساعة قبل زواجهما ورأى وجهها خلال هذا اللقاء.
وقالت: “كان من الصعب علي أن أنظر إليه أو أتفحص شكله لأني كنت خجلة جدًا”.
كانا قريبين قبل زواجهما وكان عمره 21 عامًا بينما كان عمرها 16 عامًا، وقد قبل بشرطها للزواج وهو أن تكمل دراستها. وهي اليوم في صدد الإعداد لإطروحة دكتوراه في التربية بينما تعتني بأطفالهما الأربعة.
وجادلت الفكرة التي يتبناها الغرب حول النساء السعوديات القائلة إنهن لا يتمتعن بحقوقوهن ففسّرت: “يعتقد الغرب أننا مضطهدات لأننا لا نقود ولكن هذا غير صحيح”، مضيفة إلى أنّ القيادة مزعجة بالفعل أحيانًا نظرًا لازدحام السير الخانق في الرياض. “النساء هنا يُحترمَن وهن معززات ومُكرَمات بعدة طرق لا تجدينها في الغرب”.
هي أيضًا من سلالة الشيخ عبد الوهاب وعبرت عن فخرها بأن جدها هو من أسس الشرطة الدينية في المملكة وقالت: “الحمد لله أن الهيئة موجودة لحماية بلدنا”.

هيل من الفتاوى

لقد أدت هيمنة الإسلام على حياة السعوديين إلى نمو نطاق ديني يتخطى العلماء الذين تعيّنهم الدولة. فتشهد الحياة العامة عددًا كبيرًا من الشيوخ المشاهير الذين يتابع السعوديون كل حركاتهم وتعليقاتهم وخلافاتهم تمامًا كما يتابع الأمريكيون أخبار مشاهير هوليوود، ومنهم شيوخ صغار السنّ وآخرون كبار السنّ وشيوخ كانوا متطرفين ويدعون الآن إلى الاعتدال، وشيوخ تعتبر النساء مظهرهم جذابًا وشيخ أسود البشرة يقارن نفسه بالرئيس الأمريكي باراك أوباما.
ونظرًا إلى أنّ سكان المملكة يستخدمون وسائل التواصل على الإنترنت بشدة، يتنافس هؤلاء الشيوخ للحصول على أتباع لهم على مواقع تويتر وفيسبوك وسناب شات. ويتمتع المفتي العام، وهو السلطة الدينية الأعلى في المملكة، ببرنامج تلفزيوني خاص به.
غير أنّ تقبلهم للتكنولوجيا هذا يعاكس تاريخ العلماء الوهابيين الذين طالما دعوا إلى رفض كل ما هو جديد تقريبًا معتبرين أنه يهدد الدين. ومن الأمور التي كانت سابقًا ممنوعة وفق هذا التفكير التيليغراف والراديو والكاميرا وكرة القدم وتعليم الفتيات والتلفزيون، علمًا أن إدخال أجهزة التلفاز إلى المجتمع السعودي في الستينيات أثار غضب الكثيرين.
وقد يواجه السعوديون تحدٍ في محاولة تحديد ما هو مسموح وحلال وما هو حرام، فيلجؤون بالتالي إلى العلماء الذين يصدرون الفتاوى، وهي عبارة عن أحكام دينية غير ملزمة. وفي حين أنّ العديد من تلك الفتاوى تلقى قدرًا كبيرًا من الاهتمام، كالفتوى الصادرة عن آية الله روح الله الخميني في إيران التي دعت إلى قتل الكاتب سلمان رشدي، إلا أن أغلبها تتعلق بتفاصيل الممارسات الدينية. أما غيرها، فتكشف في بعض الأحيان عن محاولات مضحكة من رجال الدين الراغبين في المصالحة ما بين الحداثة وفهمهم للدين.
فعلى سبيل المثال، دعا أحد رجال الدين إلى قتل شخصية ميكي ماوس وحاول من ثم التراجع عن كلامه، بينما أصدر شيخ آخر توضيحًا يقول إنه لم يمنع في الواقع صفرة البوفيه المفتوح. وسُئل هذا الأخير عن التقاط بعض الأشخاص لصور لأنفسهم مع قطط فأجاب إنّ المشكلة لا تكمن في وجود القطط إنما في التقاط الصور نفسها.
وقال: ”التصوير لا يجوز إلا للضرورة…لا مع القطط ولا مع الكلاب ولا مع الذئاب ولا مع أي شيء”.
سعت الحكومة إلى السيطرة على تدفق هذه الآراء الدينية من خلال مؤسسات رسمية للفتاوى لكنّ الفتاوى التي وافقت عليها الدولة استدعت السخرية هي أيضًا مثل الفتوى التي وصفت شراء أي من منتجات شخصيات البوكيمون كـ”المشاركة في الخطأ والعصيان”.
في حين أنّ الحكومة تسعى إلى إشراك المرأة أكثر وأكثر في سوق العمل، تحذر الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء من “خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله” مشيرةً إلى أنّ ذلك “هدم للمجتمع”.
أما بعض الفتاوى، فيعطي المتطرفين مبررًا دينيًا لأعمالهم، كالفتوى التي تقول: “من أبى أن يسلك طريق الاستقامة نزل به ما يكره من قتل أو استرقاق؛ إقامةً للعدل، وتحقيقًا للأمن والسلام، ومحافظةً على النفوس والأعراض والأموال”، وهي فتوى لا تزال متوفرة باللغتين العربية والإنكليزية على موقع حكومي.
وتضيف الفتوى: “فالاسترقاق في حكم الإسلام كأنه مطهرة أو سون حمام يدخله من استرقوا من باب ليغسلوا ما بهم من أوساخ، ثم يخرجوا من باب آخر في نقاء وطهارة وسلامة من الآفات.”
كنت أشرب القهوة يومًا مع السيد آل الشيخ عندما رنّ هاتفه فأجاب واستمع إلى المتكلم وأصدر فتوى في تلك اللحظة. والجدير بالذكر أنه غالبًا ما يتلقى مثل هذه المكالمات.
سأل المتكلم أين يتوجب على حاجّ متوجه إلى مكة ارتداء الثوب الأبيض تمثيلًا للطهارة، وكان الجواب سهلًا بالفعل، في جدّة. أما غيرها من الاستفسارات فكانت أصعب، وتردد آل الشيخ في إجاباته إن لم يكن متأكدًا. وسألته امرأة في إحدى المرات على سبيل المثال عن استخدام الرموش الاصطناعية فقال لها إنّه لا علم له حول هذا الموضوع، لكنه بعد أن فكّر فيه قرر إنه لا مانع من استخدامها بشرط أنه “لا يوجد غش في الموضوع”.
قد تقوم المرأة مثلًا باستخدام الرموش الصناعية قبل أن يطلب رجل يدها للزواج “وبعد الزواج، تذهب الرموش. هذا لا يجوز”، وفق ما قاله آل الشيخ.
وفي أحد أيام الجمعة اصطحبني السيد آل الشيخ لمقابلة عمّه المفتي العام عبد العزيز آل الشيخ.
دخلنا صالة استقبال كبيرة قرب منزل المفتي في الرياض فيها مقاعد مبطّنة جنب الحائط يجلس عليها عشرات الطلاب الملتحين. وكان المفتي يجلس في الوسط على كرسي مرتفع ويرتدي جوربين بنييَ اللون ويلقي بثقل جسده على مخدة.
كان الطلاب يقرؤون النصوص الدينية بينما يقاطعهم المفتي مضيفًا تعليقاته. أخبرني آل الشيخ أنّ المفتي يبلغ من العمر 75 عامًا وأنه أمسى كفيفًا عندما كان عمره 14 عامًا نتيجة عملية جراحية فاشلة على عينيه أجراها له طبيب ألماني.
ومن ثمّ شجّعني على طرح أي مسألة أريد على المفتي فسألته عن ردّه على من يقارن الوهابية بـ”الدول الإسلامية”.
فأجاب: “كل هذا كذب وافتراء. داعش فئة باغية ظالمة ليس لها علاقة”، مستخدمًا لفظة “داعش” للدلالة على التنظيم.
وبعد لحظات من الصمت سألني: “ما عليك إلا أن تُسلم”؟
فأجبته أنني وُلدت في عائلة مسيحية.
فكان ردّه: “الدين الذي أنتم عليه ليس له أصل” وأضاف أنّه عليّ أن أقبل بالوحي الذي نزل على النبي محمد.
وقال: “الدين الذي أنتم عليه ليس بدين”. “ولا بد من لقاء الله”.

مُصلِح غير متوقع

التقيت السيد الغامدي، الذين يبلغ من العمر 51 عامًا وكان سابقًا عضوًا في الشرطة الدينية، للمرة الأولى هذه السنة في غرفة الجلوس في شقته في جدّة، تلك المدينة الساحلية على البحر الأحمر. وكانت الغُرفة قد زُيّنت بشكلٍ يشبه خيم البدو: قماش أحمر داكن معلّق على الجدران وشرابات ذهبية معلّقة من السقف وسجاد يغطي الأرض ينحنى السيد الغامدي عليه خلال استراحات تخللت مقابلتنا عندما حان وقت الصلاة.
وأخبرني الغامدي عن عالم الشيوخ والفتاوى والتطبيق الدقيق للدين في كلّ جانب من جوانب الحياة.
غير أنّ هذا العالم الذي وصفه، أي عالمه هو، قد رفضه.
وما من إشارات واضحة في خلفية الغامدي تدلّ على أنه قد يصبح مصلحًا دينيًا. فخلال دراسته الجامعية، استقال من منصبه في مكتب الجمارك في ميناء جدّة لأنّ شيخًا قال له إنّ جمع الرسوم حرام.
وبعد تخرّجه من الجامعة درس الدين في وقت فراغه واستلم إدارة الحسابات الأجنبية لصالح مكتب حكومي، وهي وظيفة تطلبت منه السفر إلى بلاد غير إسلامية.
وقال في هذا الصدد: “كان العلماء يفتون في ذلك الوقت أن لا يجوز السفر الى بلاد الكفار إلا بالضرورة”.
استقال من وظيفته نتيجة لذلك.
درّس بعد ذلك علوم الاقتصاد في مدرسة تقنية في السعودية لكنه لم يوافق على تعليم الطلاب عن الرأسمالية والاشتراكية فقط فأضاف مواد حول التمويل الإسلامي. لكنّ الطلاب اشتكوا من العمل الإضافي فاستقال من تلك الوظيفة أيضًا.
وفي النهاية وجد وظيفة تتناسب مع معتقداته الدينية كعضو في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جدّة.
تمّ نقله في السنوات التالية إلى مكة واستلم عدّة مناصب داخل الهيئة، كما أنه عمل على عدة قضايا منها قضايا دعارة وشعوذة، علمًا أن العقاب على الشعوذة لمن تحكم عليه المحكمة بالذنب هو قطع الرأس أحيانًا.
لكنّه بدأ يشعر ببعض التحفظات حول كيفية عمل الهيئة، إذ رأى أنّ اندفاع زملائه كان يقودهم أحيانًا إلى المغالاة في التصرف واقتحام بيوت الناس أو إهانة المحتجزين.
وأعطى مثلًا فقال: “أنسان مثل شرب الخمر”… “هذا لا يمثل عداوة للدين لكن تكون عندهم مبالغة عاطفية في التعامل مع الناس”.
أخبرني أنه طُلب منه في مرحلة ما مراجعة بعض القضايا، فحاول أن يستفيد من منصبه هذا للتبليغ عن التجاوزات ودفع أعضاء الهيئة إلى إعادة أغراض كانوا قد صادروها من دون حقّ.
وتذكّر قضية عن رجل أعزب كبير في السن قيل إنه كان يستقبل امرأتَين في منزله في نهاية الأسبوع. وبما أنّ الرجل لم يكن يصلّي في المسجد، استنتج جيرانه أنّ نواياه باطلة وداهمت الهيئة منزله فقبضت عليه بالجرم المشهود، ألا أنه كان يتلقى زيارة من ابنتَيه.
وقال الغامدي: “أحيانا قد يهان الفرد بطريقة غير إنسانية وقد تولد هذه الإهانة كرهًا للدين”.
توفي رئيس الهيئة في مكة في العام 2005 وتمّت ترقية السيد الغامدي ليستلم هذا المنصب الكبير ويشرف على حوالي 90 مركزًا موزعًا على منطقة واسعة ومتنوعة تشمل أقدس الأماكن لدى المسلمين. وبذل كل ما لديه من جهد ليكون قدر المسؤولية وهو في الوقت عينه قلقٌ حول تركيز الهيئة على المسائل الخاطئة.
كان يدرس في وقته الخاص النصوص الدينية وأحاديث النبي محمد، باحثًا عن توجيه حول ما هو حلال وما هو حرام، وقام بتوثيق استنتاجاته.
وصرّح: “استغربت جدًا لأننا نسمع دائمًا من العلماء حرام، حرام، حرام ولكن لم نناقش يوم من الايام الأدلة هذه.”
التزم الصمت واحتفظ بملفّه إذ كان يدرك مدى خطورة مثل هذه الاستنتاجات بالنسبة لرجل في منصبه.
لكنّ سرعان ما ظهرت هذه الاستنتاجات في العلن.
ففي ذلك الوقت الذي كان يعيد فيه الغامدي التفكير في نظرته للعالم، أعلن الملك عبدالله، الذي كان الملك الحاكم في ذلك الوقت، عن خطّة لافتتاح جامعة ذات مستوى عالمي هي جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست). وما أدهش المؤسسات الدينية في المملكة تحديدًا هو قرار الملك عدم الفصل بين الطلاب بحسب الجنس وعدم فرض لباس معيّن على الطالبات.
فقد اتبعت الجامعة نموذج شركة أرامكو السعودية، وهي الشركة الوطنية للنفط، التي تمّ إبقاؤها على معزلة من أي تدخل ديني، ما يسلّط الضوء على إحدى أكبر التناقضات في المملكة العربية السعودية:أي أنه بالرغم من مدى تنويه العائلة المالكة بقيمها الإسلامية، فهي لا تلجأ إلى مشورة رجال الدين عندما تريد كسب المال أو الابتكار بل تبنى جدارًا يقيها منهم وتقفل الباب.
التزم اغلب العلماء الصمت إكرامًا للملك، علمًا أنّ أحد أبرز رجال الدين تطرّق إلى الموضوع ضمن برنامج يتلقى فيه المضيف الاتصالات فحذّر من الجامعات المختلطة، وبالتحديد من التحرش الجنسي، والتغازل بين الرجال والنساء، وصرف الانتباه عن الدراسة، وغيرة الرجال على زوجاتهنّ، والاغتصاب.
قال الشيخ سعد الشثري: “فأن الاختلاط مفسدته عظيمة وشره كثير”، مضيفًا أنّ الملك لكان أوقف المشروع لو عرف أن الاختلاط جزء منه.
لكن الاختلاط في الجامعة كان في الواقع فكرة الملك، ولم يرضَ هذا الأخير عن كلام الشيخ فأصدر مرسومًا ملكيًا لصرفه من منصبه.
شاهد السيد الغامدي هذه الأحداث من مكتبه في مكة وشعر بالإحباط إذ رأى أنّ رجال الدين لا يدعمون مشروعًا كان برأيه مفيدًا للمملكة.
قرر الاستخارة، ومن ثمّ أحضر تقريره ولخّصه في مقالَين طويلَين نشرتهما صحيفة “عكاظ” في العام 2009.
كان هذان المقالان عبارة عن الضربة الأولى في المعركة التي ستدوم لسنوات بين السيد الغامدي والمؤسسات الدينية. وتبعتهما مقالات أخرى ومقابلات تلفزيونية ومجادلات مع علماء آخرين أهانوه وقدموا ما قدموه من أدلة وجدوها في النصوص الدينية. ونبذه زملائه في الهيئة فطلب أن يتقاعد في سنّ مبكر وتمّت الموافقة على طلبه هذا بسرعة.
بعد نهاية عمله في الهيئة، بدأ بالتشكيك في ممارسات أخرى من إغلاق المحلات عند وقت الصلاة إلى حثّ الناس على الصلاة في المسجد وفرض تغطية الوجه ومنع النساء من القيادة.
وكان كلّ تعليق يقوم به يشعل نار معركة جديدة، وسألته امرأة على موقع تويتر في إحدى المرات إن كان بإمكانها أن تزيّن وجهها بالماكياج وليس أن تكشف عنه وحسب، فأجابها بنعم وانهالت عليه الهجمات من جديد.
تبع هذا التعليق في العام 2014 مقطع فيديو مسجّل له ولزوجته على برنامج تلفزيوني معروف، وزوجته تكشف عن وجهها وتعبر عن دعمها له.
جائت ردود قاسية عليه من كبار المسؤولين في المؤسسة الدينية.
وشكك العديد منهم بمؤهلاته الدينية قائلين إنه ليس شيخًا بالفعل، علمًا أنه اتهام مشبوه به إذ ما من مؤهلات قياسية ليصبح المرء شيخًا. واستهدفوا سيرته الذاتية متحججين أنه لا يملك شهادة في الدين وأنه حاز شهادة الدكتوراه من جامعة “آمباسادور يونيفرسيتي كووبيراشن”، أي مؤسسة هدفها الوحيد منح الشهادات بالاستناد إلى خبرة العمل “في الشرق الأوسط”، وهو أمر صحيح.
قال الشيخ صالح اللحيدان، وهو عضو في هيئة كبار العلماء، عنه: “لا شك أن الرجل هذا سيء”… “واجب على الدولة أن تكلف من يستدعي ويعذبه”.
هذا وتطرق المفتي العام إلى الموضوع في برنامجه فقال إنّ “النساء المسلمات يحتجبن ويرين الحجاب أمرًا ضروريًا وخلقًا إسلاميًا”، وحث القنوات التلفزيونية في المملكة ألا تقدم للمجتمع “ما يفسد عليه دينه وأخلاقه وقيمه”.
بالرغم من أنّ الهجوم الذي واجهه السيد الغامدي من رجال الدين كان مدويًا، سبب له رد فعل المجتمع ألمًا أكبر بعد حيث أصدرت قبيلته بيانًا تتبرأ منه فيه وتصفه بأنه “مضطرب ومحتار”. وكان يتلقى اتصالات على هاتفه النقال نهارًا وليلًا من أناس يصرخون عليه، حتى أنه وجد عند عودته إلى المنزل يومًا رسومات على حائط منزله. وطرقت مجموعة من الرجال بابه يومًا مطالبين أن “يختلطوا” بنساء المنزل فاتصل أبناؤه (ولديه تسعة أولاد) بالشرطة.
أما قبل أن تهب عاصفة الغضب هذه، فكان يخطب يوم الجمعة في مسجد في مكة ويتلقى راتبًا من الحكومة مقابل ذلك. إلا أنّ المصلين اشتكوا عليه بعد أن بدأ بالتعبير عن آرائه فصُرف من منصبه وخسر راتبه.
الجدير بالذكر أن السيد الغامدي لم يخالف أي قانون ولم يواجه أي دعوى قضائية، لكنّ طبيعة المجتمع السعودي ذات الروابط الوثيقة أدت إلى أن يطال الهجوم عائلته أيضًا فقررت أسرة خطيبة ابنه الأكبر التراجع عن الزواج لأنهم لم يريدوا أن ترتبط عائلتهم بعائلة الغامدي.
وقال الغامدي إنّ صهره سأل أخته: “أنتِ معي أو مع أخيك”؟ وقالت: “أنا مع أخي” فطلقها.
أما ابنه عمار، ويبلغ من العمر 15 عامًا، فسخر منه زملاؤه في المدرسة. وقال عمار إنّ أحد الأطفال واجهه قائلًا: “كيف تظهر أمك على التلفزيون؟ هذا لا يصح. أنتم بلا أخلاق.”
وما كان من عمار إلا أن ضربه.
هدا ليس مكان للتعبير عن الرأي
دعاني أحد أساتذة جامعة في جدة لتناول العشاء في منزله، وانضمت إلينا زوجته، وهي طبيبة، وشعرها مغطى بحجاب أنيق.
تزوجا منذ فترة قصيرة ومزح أنهما مناسبان تمامًا لبعضهما لأنها تجيد الطبخ وهو يجيد الأكل. ضحكت زوجته وسكبت له المزيد من الحساء.
وسألته عن السيد الغامدي.
فأجاب: “استنادًا إلى ما قرأته وشاهدته، أظن أنه محق وأنه دافع عن معتقداته”… “إنني أحترم ذلك”.
لكنه أضاف أن المشكلة في المجتمع السعودي تكمن في عدم تعليم قبول الآراء المغايرة: “إما أن تتبع ما أقول أو أصنّفك وأؤذيك وأجبرك على التخلي عن النقاش”. “هذا التصرف غير إسلامي فللناس آراء مختلفة وقد يتجادل البعض لكن عليهم أن يعيشوا تحت سقف واحد”.
ولا ترى زوجته أي مشكلة في الاختلاط والعمل مع النساء لكنها استاءت من أنّ السيد الغامدي تسبب بهذه الفضيحة عبر الإعلان عن آرائه. فبالنسبة لها، العائلة المالكة تحدد القواعد ومن غير اللائق أن يشن أفراد الشعب حملة تدعو إلى التغيير.
وقالت: “عليه أن يتبع ولي الأمر”. “إذا بدأ كل شخص يتكلم بما يحلو له فستعم الفوضى”.
بعد العشاء، انضم إلينا رجل دين شاب يعمل لدى أجهزة الأمن. متفق هو أيضًا مع آرى السيد الغامدي لكنه يفضّل عدم التكلم في هذه المواضيع علنا. أما الإجابة على سؤالي وفقا له، فتكمن في التحفّظ الشديد الذي يهيمن على المؤسسات الدينية ويعيق التطور.
وغالبًا ما كان يلقي محاضرات أمام أمنيين تتبعها مناقشات وقال إنّ السؤال الأكثر شيوعًا هو “أليست البدلة العسكرية حرام”؟ إذ يدعو العديد من العلماء الوهابيين إلى عدم التشبه بالكفار، مما يحيّر البعض.
وباعتقاده، لا يطرح ارتاء البذلة العسكرية أي مشكلة وعبّر عن خوفه من أن يجعل مثل هذا التفكير الضيق الناس عرضة للتطرف.
وفسّر: “الوضع مثل الأفلام الأمريكية عندما يخترعون روبوت وثم يفقدون السيطرة عليه فيهاجمهم والريموت يتوقف عن العمل”.
شكرني الأستاذ في اليوم التالي على زيارتي عبر إرسال رسالة نصية تقول: “أود أن أذكرك أن أي مقال يكشف عن مصدر الكلام قد يضرّ بنا. أثق بقدرتك على التكتم” وتتبعها ثلاثة زهور.
ولم يتبقَ لي سوى التكلم مع الهيئة نفسها لأعلم ما رأي مسؤولي الهيئة وموظفيها حول هذا الموضوع. غير أنّ تلك القوة التي يُنظر إليها كقوة قديرة تبسط سلطتها في كل مكان لم تبدو مستعدة للتكلم معي.
لم أتمكن من زيارة مكتب السيد الغامدي السابق لأنه يُمنع على غير المسلمين دخول مكة، ما دفعني إلى الاتصال بعدد من المعارف طالبًا منهم إجراء مقابلات مع أقارب لهم يعملون في الهيئة. غير أنهم رفضوا كلهم التكلم معي. كما أنني اتصلت بالمتحدث باسم الهيئة لكنه أعلمني أنه مسافر خارج العاصمة وتوقف بعد ذلك عن الرد على مكالماتي.
أضف إلى ذلك أنني ذهبت بنفسي إلى مقرّ الهيئة الرئيسي في الرياض، وهو مبنى أشبه بصندوق مصنوع من الحديد والزجاح يقع على طريق سريع بين محطة للوقود ومعرض لبيع السيارات. ذكر موقع الهيئة الالكتروني الأوقات التي يُسمح فيها مقابلة الرئيس العام، فتوجهت إلى مكتبه مرورًا بأروقة حيث الرجال الملتحين يتنقلون واللافتات تعلو الجدران وتدعو إلى الحفاظ على ” سياسة الجودة” والعمل “معًا ضد الفساد”.
“ما جاء اليوم”، هذا ما قاله لي سكريتيرالرئيس العام. “ممكن الأسبوع القادم”.
أثناء مغادرتي دعاني رجلان إلى أحد المكاتب وقدما لي القهوة.
سألتهما: “ما رأيكما بالعمل في الهيئة؟”
أجابني أحدهما: “كل من يختار هذا العمل يحبه” فهو عمل “الأمة الأسلامية جمعاء” وهو شعور جيد أن هذا العمل “يهدي الناس من الظلمة الى النور”.
أما زميله فيعمل في الهيئة منذ 15 عامًا وذكر أنه يفضّل العمل في المكتب قائلًا: “أرتاح أكثر في الإدارة”. “هناك [خارج المكتب] عندنا مشكلة مع الناس. يسمونا “الشرطة الدينية”. مجرمين! حرامية! لا ترتاح أبدًا في الميدان”.
ظهر رجل عابس عند الباب وأعلمني أنه لا يحق لي التكلم مع أي شخص. غادر الرجل الأول المكتب بعد ذلك بينما قدّم لي الرجل الثاني المزيد من القهوة وثم الشاي وأصرّ أن أحتفظ بقنينة ماء عند رحيلي.

الإصلاح صعب

تكمن المفارقة في وضع السيد الغامدي في أنّ العديد من السعوديين، بمن فيهم أعضاء من العائلة المالكة وعلماء بارزين، يوافقونه الرأي لكن يفعلون ذلك بشكل غير معلن. هذا ومن الشائع أن يختلط الرجال والنساء في بعض الأماكن مثل المستشفيات وصالات المؤتمرات وفي مكة خلال الحج، وليس من النادر في بعض المدن السعودية أن تكشف النساء عن وجوههن أو حتى أن يظهر جزء من شعرهن في العلن.
بيد أنّ المجتمع مقسّم بين المحافظين الذين يريدون الحفاظ على ما يعتبرونه هوية السعودية الاسلامية الخالصة وبين الليبراليين (على أن يُفهم هذا المصطلح في السياق السعودي) الذين يريدون المزيد من الحريات. فغالبًا ما يدافع الليبراليون عن قضاياهم مثل السيد الغامدي، إلا أن الشيوخ بدورهم لا يفعلون ذلك، ما يؤدي إلى وسم السيد الغامدي كخائن.
والمفارقة الثانية هي أنّ المملكة العربية السعودية أقرّت هذه السنة بعض الإصلاحات التي كان قد دعا إليها السيد الغامدي.
ولم تكن هذه السنة بالسهلة بالنسبة للهيئة. فقد اشتهر فيديو بشكلٍ واسع على الإنترنت يظهر فتاة تصرخ وهي مُلقاة على الأرض خارج مركز تجاري في الرياض في خلال مواجهة مع الهيئة، فترتفع عباءتها فوق رأسها وتكشف عن رجليها وجسمها. وتعتبر “فتاة النخيل” بالنسبة للعديد من السعوديين خير مثال عن تجاوزات الهيئة.
ألقت الهيئة بعد ذلك القبض على علي العلياني، وهو مقدم مشهور لأحد البرامج التلفزيونية الذي غالبًا ما كان ينتقد الشخصيات الدينية. وانتشرت صور على الإنترنت تظهر السيد علياني مكبّل اليدين وبجانبه زجاجات كحول، ومن الواضح أن هذه الصور مفبركة وتمّ تسريبها لتدمير سمعته. لقد أثارت هذه الصور غضب العديد من الناس.
وفي نيسان/أبريل، استجابت الحكومة إلى هذه الأحداث بمرسوم مفاجئ يقوًض سلطة الشرطة الدينية وحرمتها من سلطات توقيف الأفراد واستجوابهم وتعقبهم، وأجبرتها على العمل مع الشرطة وأوصتها بالتعامل مع المواطنين “برقة ولطف”.
رحّب السيد الغامدي بهذا القرار بالرغم من أنه لا يزال منبوذًا من مجتمعه ولا يستطيع الحصول على أي وظيفة كشيخ داخل المملكة بسبب آرائه.
فيتجنب اليوم لفت الأنظار إذ لا يزال الناس يشتمونه عندما يظهر إلى العلن. وهو عاطل عن العمل لكنه ينشر مقالات منتظمة في الصحف، وأغلبها يُنشر في الخارج.
قبل انتهاء مقابلتنا، دخلت زوجته جواهر الغرفة وترتدي عباءة سوداء وتكشف عن وجهها. سلّمت علي وصافحتني ويلفّها سحابة من العطر، ثم جلست بالقرب من زوجها.
أخبرتني أن هذه الأحداث قد غيرت حياتها بشكل غير متوقع لكنها لا تندم على أي شيء، تمامًا مثل زوجها.
وقالت: “نحن وصلنا الرسالة. هدف الرسالة لم يكن الظهور دائمًا أو الشهرة.”… “هدفها كان رسالة للمجتمع أن الدين ليس عادات وتقاليد. الدين شيء آخر”.

بقلم بين هابرد في صيفة نيويور تايمز

ترجمت شركة “إندستري آرابك” هذه المقالة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية عن صحيفة النيويرك تايمز.