ازدادت في السنوات الماضية, الأطروحات التي تقدّم الصوفية كحل لمشكلة التطرّف الإسلامي. تتنوع هذه الأطروحات بين دينية, ثقافية, مجتمعية, وحتى سياسية. يعرض هذا المقال أمثلة عن الأطروحات الآنفة الذكر, مضيفاً إليها طرحاً يحمل وجهة نظر معاكسة, ترى في الصوفية سبباً تاريخياً للتطرف لا علاجاً له, وأنه وإن كانت علاجاً اليوم, فهي لا تتعدى حدود “المسكن” للتطرف.
الصوفية كحل للعنف الإسلاموي
من مصر, السودان, الجزائر, و المغرب في شمال إفريقيا, وصولاً للهند وباكستان, يرى مجموعة من المحللين أن الصوفية هي الحل. يقول الباحث الباكستاني, سيد قمر أفضال رضوي, أن الصوفية استراتيجية ناعمة لمواجهة الأيديولوجيا الإسلاموية الراديكالية, وهي بالنسبة له ليست استراتيجية فقط, بل إمكانية فعلية “لشفاء” المتطرفين من انحرافات الإرهاب في عقولهم. يرتكز تحليل رضوي على قاعدتين: فهم عولمي لظاهرة الإرهاب الإسلاموي, وقراءة عولمية أيضاً لتاريخ التصوف بتركيز لا بأس به على عالمية فكرة التصوف وربطها الشرق بالغرب. من هذه المنطلقات الفكرية, يرى رضوي في التصوف حلاً للإرهاب, عن طريق ربط جسور التواصل بين الشرق والغرب في الحاضر, كما كانت في الماضي في فترات ازدهار التصوف في العالم الإسلامي. يختم رضوي مقاله بالتوصية لإدخال “الإسلام الصوفي” في مناهج التعليم المدرسية في البلدان التي تعاني من التطرف الإسلاموي.
أين اللغط في هذه الأطروحات
تعتمد القرائات التي ترى في الصوفية حلاً لمشكلة الإرهاب, على رؤية غربية بحتة لمفهوم الإرهاب الإسلاموي. رؤية تعمم على المجتمعات ذات الأغلبية الإسلامية من باكستان إلى موريتانيا دون مراعاة التغييرات على مستوى الدولة ولا تطور المجتمعات الاقتصادي–السياسي الذي يتباين بين هذه الدولة وتلك. أشار إدوار سعيد وإقبال أحمد مراراً لهذا اللغط في دراسة المجتمعات المشرقية. إن الأطروحات التي تحاول إيجاد حل لمشكلة الإرهاب الإسلامي, تفشل مراراً لأنها تغفل عن الجوانب المحلية لنشوء هذا التطرف. فالجهاد في سوريا مثلاً, هو نتاج التطور التاريخي للمجتمع السوري منذ نشوء الدولة الحديثة في الثلاثينات. يركز المقال على سوريا لبحث تطور التدين تاريخياً على مستوى سوريا كدولة.
الصوفية في التاريخ السوري الحديث
خرجت المناطق السورية تحت الحكم العثماني من الحرب العالمية الأولى منهكة من “الأخذ عسكر” الذي خلف عدد كبير من القتلى والمفقودين بالإضافة للأوضاع الاقتصادية التي ضربت البلاد. لم تعد الخلافة والأمة الإسلامية حججاً مقنعة, وفي ذلك الوقت, كانت وجوه الثورة العربية الكبرى تتواصل مع القوى المعادية للدولة العثمانية على أمل هزم الجهة التي تقمعهم.
قاد عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني و محمد رشيد رضا مايسمى بـ” النهضة العربية” في محاولة لغوية, دينية, وسياسية للخروج من التغييب المجتمعي الذي سببه حكم العثمانيين للمنطقة.
دخل فيصل دمشق عام 1918. نكث الأوروبيين بوعودهم واحتلت دمشق عام 1920. ظهر الأخوان المسلمون في مصر وأسسوا الجماعة في الثلاثينات في سوريا كحالة ردة فعل على ما اعتقدوا أنه غدراً عربياً بآخر الخلفاء الموحدين “للأمة.” خلال الحكم العثماني, تبنى المسلمون السنّة في سوريا بشكل تدريجي مذهب العثمانيين في الدين, فانقلبوا من أغلبية شافعية ومالكية لأغلبية حنفية حسب توصيف ألبرت حوراني في كتابه, تاريخ الشعوب العربية. هذا التبني أيضاً جاء مصحوباً بتبنٍ لشعائر الصوفية, تملؤ الزوايا الصوفية مدن دمشق وحلب القديمة. تناسب الصوفية الخلفاء, فهي ليست كالأشعرية “أليفة” اتجاه الجالس على كرسي الحكم فحسب, بل إنها تمعن في إذلال النفس المسلمة فتجعلها في غيابٍ شبه تامٍ عن الواقع السياسي والاجتماعي, مفضلةً الدار الآخرة عن الدنيا.
تعرض مشروع النهضة في سوريا لنكسة الاحتلال الفرنسي بين عامي 1920-1946, تلاه عهد الانقلابات التي أنهت الديمقراطية البرلمانية وأرست الحكم العسكري مع سيطرة البعث على السلطة عام 1963. تصاعد التوتر بين السلطة و الإسلاميين في ستينات وسبعينات القرن الماضي. استثمر الأخوان المسلمون في حلقات تعليم القرآن الكريم في المساجد, التي كانت تطوراً طفيفاً عن نظام التعليم العثماني “الكتّاب.” اتبع الأخوان المسلمون في سوريا سياسة نصّ عليها حسن البنا في رسائله, تفيد بالتقرب من المسلمين ونقاشهم والابتعاد عن ما يثير الخلاف المذهبي معهم. كان هذا عاملاً في خلق حالة التعاطف في حلق “الكتّاب” والمساجد الصوفية الأصل مع قضية الأخوان المسلمين السياسية.
بعد الاستقلال عام 1946, نشأت طبقة دينية سنية جديدة متنورة دينياً في سوريا, من أمثال الشيخ حسين الخطاب وحسن حبنكة. هذه الطبقة نبذت الصوفية التقليدية, واقتربت أكثر للعلوم الدينية عن طريق الانخراط بنقاش ديني دنيوي في الأزهر أو في مدارس عالمية أخرى. انخرطت هذه الطبقة في السياسة في الستينات, وكان الصدام حول المادة 3 في الدستور التي تفرض ديانة رئيس الجمهورية أن يكون مسلماً. تنامي الصراع مع السلطة العلمانية الطابع, التي لطالما اتُهمت بطائفيتها. إن التحالف بين الأخوان المسلمين و خطباء المساجد, جعل من كلا الطرفين عرضة لقمع السلطة التي اتهمت كل ملتحٍ بالانتماء للأخوان المسلمين. دفع المجتمع السني في سوريا ثمن هذا التحالف الغير معلن مع قضايا الأخوان المسلمين السياسية طوال عقد الثمانينات. ولكن الناتج الأكثر أهمية دينياً لعقدي الستينات والسبعينات, هو اخضاع الصوفية في سوريا لعملية انعاش بعد أن كادت تنقرض على يد العلماء السنة “المحدّثين” كما كانوا يلقّبون.
منذ منتصف الستينات وخلال السبعينات, بينما واجه نظام البعث السوري تحالفاً أخوانياً–سنياً متزايداً, كان بحاجة لرجل دين سنّي يكبح جماح الجموع المتظاهرة هنا وهناك, والعنف السياسي المتزايد الذي قاده الأخوان المسلمون. نهَج البعث العلماني نهْج الخلفاء وجلب عالماً سلطانياً, كان صوفياً كما فضّله الخلفاء, الشيخ أحمد كفتارو. عيّن الشيخ كفتارو مفتياً عاماً لسوريا عام 1964. تبنى رؤية البعث للبلاد, وكسب بالمقابل الدعم لافتتاح جامعة إسلامية معروفة محلياً وعالمياً بالأوساط الإسلامية, مجمع الشيخ أحمد كفتارو, أو مجمع أبو النور كما يسمى في دمشق.
عندما لا يكون يُحاضر ويخطب في مساجد دمشق ناشراً أصول الصوفية وروح الدعم للسلطة, كان كفتارو يجوب بلاد العالم, تماماً كأي صوفي حداثوي, في قضية التآلف بين الشرق والغرب, مستخدماً نصوص ابن عربي والرومي. وفّر كفتارو و نهجه الفكري في دمشق وحلب “متنفساً” دينياً لأولئك السنّة الذي شعروا يوماً بالحاجة للمشاركة السياسية بعد خطب مشايخهم المحمسة ضد السلطة. عادت الصوفية “الصامتة سياسياً” لتكون الحالة الطبيعية للسوريين السنّة بكل خرافاتها وعاداتها المستوحاة من عصر الانحطاط العربي خلال الحكم العثماني.
طوّر النظام البعثي منظومة دينية–سياسية سماها معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم, معاهد موسمية بالغالب تحافظ على نظام “الكتّاب” وتقوننه بحيث لا أحد يستغله سياسياً سوى المسمى باسمه. تعلّم هذه المعاهد القرآن الكريم. حفظه فقط, نادراً مع تفسيره, كتاب الأربعين النووية, البردة للبوصيري, ألفية ابن مالك, وكتيبات أخرى. تتبع هذه المعاهد منهج “الحفظ“, تقوي الذاكرة, تعتني بها, يتنافس المريدون بقوة الذاكرة ولا شيء سوى قوة الذاكرة. حالة مكثفة عن مشاكل نظام التعليم الحديث, يخرج الطالب من هذه المعاهد صلب الذاكرة متمسكاً بكل ما حفظه مع فهم قليل لتلك المحفوظات. الولاء أيضاً مهم جداً في هذه المعاهد, عليك أن تذعن بالولاء للشيخ ولمواقفه دون مناقشة.
يواجه الشباب الناشئ في هذا الوسط القمعي فكرياً, أحداثاً تاريخية عاصفة. قمع الثمانينات, حرب لبنان, حرب الخليج الأولى, حرب الخليج الثانية, الصراع في البلقان, واستمرار الصراع العربي–الاسرائيلي. كل جمعة, توزّع وزارة الأوقاف السورية الخطب على خطباء المساجد, وتملؤها بالدعاء للمسلمين هنا وهناك, دون أي مناقشة لأسباب الصراع الذي يدعون من أجله. الرؤية واضحة, “أنتم مستهدفون, والحل بالدعاء لله أن ينصر الإسلام والمسلمين.” حالة الصمت المطبق في هذه الأوساط تقود الإنسان, وهو مفكر بطبيعته الخلقية, للشعور بالاختناق. كان سقوط العراق الشعرة التي قسمت ظهر البعير. لم تقدّم الدوائر الصوفية السنيّة في سوريا أية نقاشات وأية خارطة طريق للحدث الجلل, واكتفت بالدعاء. هيجان المجتمع كان جاهزاً, وجد هذا الهيجان من يستثمره, بل إن الصمت الصوفي عن الواقع الاجتماعي–السياسي, كان أحد أهم أسباب الوصول لحالة الاحتقان التي سمحت للمستثمرين بالغضب السنّي من المباشرة بعملهم العابر للحدود.
لعل أكبر التغييرات الاجتماعية التي حققتها السنوات الماضية في سوريا, هو رفع الستار الديني عن كل المشايخ الصوفيين والأشاعرة في البلاد. عرّت الأحداث تناقاضاتهم وجعلت من أقوالهم محلّ سخرية لأكثر المتدينين في سوريا. هذه الشرعية الدينية بدأت –مجدداً– عملية إعادة تأهيلها بعد أن أثبت منطق الثورات فشله, بإفرازها منتجاتٍ دينية من زمرة علوش وعبود والمحيسني والجولاني. فساد بضاعة الحركات الاجتماعية لما يسمى “الربيع العربي” جعل من بضاعة الأشاعرة والصوفية خياراً ممكن اعتباره شعبياً. قد يجد البعض في بقايا منظومة كفتارو في سوريا –أو منظومة حسون اليوم– خلاصاً من “بعبع داعش“, لكنه مجرد إعادة للوحش إلى قمقمه, حيث كان طوال 400 سنة تحت حكم السلطان العثماني, حيث كان منذ الثمانينات, يروّض على يد كفتارو وغيره.
إن الحل يكمن في دعم الحرية في إنشاء مؤسسات مجتمع مدني تكسب الدعم الشعبي من خلال الحوار الدائم للأحداث التاريخية, تقدم هذه المؤسسات للمجتمع تطعيماً ضد التطرف, فعندما يحاول المتطرفون تجنيد الشباب الهائج, فإنهم يجدون شباباً مثقفاً علمياً وسياسياً, لا يسهل الإيقاع به. تأطر مؤسسات المجتمع المدني المجموعات الفكرية في إطار قانوني منفتح, يحمي حق المشاركة ويضمن التطور الفكري للمجموعات دينية كانت أم غير دينية, مع إطار قانوني يمنع الدعوة للعنف السياسي. هذه حالة صحية تعترف بأصول المشكلة وتتجه منها للحلول بطريقة مناقضة لتوجهات سائدة اليوم تدعوا للعودة للزوايا الصوفية والاجتهاد بالدعاء إلى الله.