كان من المؤمل أن يقود انتهاء المعارك الحربية الذي سعت إليه الدول المعنية بالقضية السورية، والتي قبلت من أجله تقديم تنازلاتٍ سياسيةٍ كبيرة لروسيا وإيران والأسد، إلى تعبيد طريق المفاوضات السياسية لوضع حد للكارثة السورية المستمرة منذ أكثر من سبع سنوات. لكن من الواضح الآن أن مسار المفاوضات والحل السياسي المزعوم في طريقٍ مسدودة تماماً. وإذا استمرت الأمور على ما هي عليه، لن يكون هناك أي أملٍ في التقدّم خطوة واحدة على طريق الدخول في الحل، وسوف ينتهي الأمر بتكريس الوضع الراهن الذي يقسم سورية إلى مناطق نفوذ متعدّدة، ويجعل منه وضعاً طويل المدى. 


والواقع أن عوامل تعطيل الحل السياسي لم تولد اليوم، لكنها رافقت العمل الدبلوماسي الدولي على المسألة السورية منذ بدايتها. وكانت جرثومة هذا التعطيل كامنةً في قرارات مجلس الأمن الذي خضع لإملاءات موسكو وإرادتها في النهاية، وأراد أن يربط أي مخرجٍ للصراع الدائر في سورية بتفاهمٍ بين نظامٍ رمى بنفسه في حربٍ شاملة، لم يوفر فيها سلاحاً، لا عسكرياً ولا سياسياً ولا نفسياً وإعلامياً، ولم ير لها أفقاً أو ضوابط غير سحق الانتفاضة الشعبية، وإغراقها بالدماء، من دون أي حسابٍ للربح والخسارة، ومعارضةٍ مرتبطةٍ بجمهورٍ كان على ثقةٍ مطلقةٍ بحقه في التغيير، كما حصل في البلدان القريبة الأخرى، وبقدرته على صناعته، واستعداده غير المسبوق للتضحية بكل ما يملكه للوصول إلى غاياته.

وما كان من الممكن لمثل هذا التصوّر الذي يأخذ، بالدرجة الأولى، مراعاة النظام ومصالحه، ويراهن على إغرائه لتقديم بعض التنازلات للشعب والمعارضة، أن يفضي إلى شيء آخر، سوى تشجيع الجاني على الاستمرار في جنايته، ودفع المجني عليه إلى مزيدٍ من المغالاة في مطالبه، ليس تجاه النظام فحسب، وإنما تجاه المجتمع الدولي الذي وضع نفسه وصياً على المسألة، وحامياً للعدالة في الوقت نفسه.

 
بين أسيادٍ وأحرارٍ، يعترف كل منهما بالآخر، اتفاق الحل الوسط، على مبدأ لا غالب ولا مغلوب، ليس ممكناً فحسب، ولكنه المخرج الوحيد لأي نزاع. لكنه مستحيلٌ أن يتحقّق بين أطرافٍ لا تعترف ببعضها، ولا ترى في خصمها ندّاً ولا طرفاً لديه حق، أي حق. كما هو واضح، بعد سنواتٍ طويلةٍ من القتل والدمار والعذاب، كان ثمن الرهان على إمكانية مصالحة الذئب مع الحمل والجلاد مع الضحية، أن الذئب ازداد ذئبيةً، وزادت شهوته لافتراس الحمل، ولن يتوقف من دون إرواء غليله. 


أمام إرادة سحق الانتفاضة، ورفض أي حل سياسيٍّ، أو مساومةٍ على السيطرة على دولةٍ اعتبرها الأسد، منذ بداية حكمه، ملكيته العائلية الخاصة، والدعم الاستثنائي الذي لقيه على يدي طهران وموسكو، الطامعتين في إدراج شهوة السلطة لدى الطغمة الحاكمة ضمن أجندتيهما الإقليمية والدولية، حاولت الدول العربية والغربية، كما حاولت المنظمة الدولية، أن ترأب الصدع، بتقديم مزيدٍ من التنازلات لإغراء الأسد وحلفائه بالقبول بحل سياسي أو بتسوية.

هكذا تمّ التراجع عن بيان جنيف الأول الذي يتحدّث عن هيئة حكمٍ انتقاليٍّ كاملة الصلاحيات، وسمح للروس أن يفسروا قرار مجلس الأمن الدولي 2118، ثم 2254، على حسب مزاجهم، لتثبيت نقطة بقاء الأسد أو استبعاده من النقاش. وهكذا قبل المجتمع الدولي، بعد فشل “جنيف 1″، بالتخلي عن مبادئ المبادرة العربية والدولية التي كان أول مبعوث أممي إلى سورية، كوفي أنان، قد صاغها، بادئاً بضرورة وقف القتال، وسحب الجيش وآلياته من المدن، وإطلاق سراح المعتقلين والسماح للشعب بالتعبير عن رأيه بحرية، بتبنّي مواقف ملتبسةٍ أو ضعيفةٍ أمام التصعيد الروسي، وصرف النظر عن تحميل النظام المسؤولية عن إفشال مفاوضات جنيف 2، والتي رفض فيها ممثل النظام، بشار الجعفري، جميع محاولات المبعوث الأممي، الأخضر الإبراهيمي، فتح ملف الانتقال السياسي.

كما قبل المجتمع الدولي، فيما بعد، ومن سمّوا أنفسهم أصدقاء الشعب السوري، تركيز جميع الجهود على الحرب على الإرهاب، وقطعوا المساعدات عن المعارضة المسلحة، مستسلمين أمام الروس، وآملين بالحصول على تعاونهم في الضغط على النظام للتوصل إلى تسوية. ولكن الروس الذين لم يخفوا يوماً دعمهم بقاء الأسد استغلوا تخاذل الغرب، أو تردّد قادته وضياع بوصلتهم في المسألة السورية، وعملوا، بعكس ما كان الغرب ينتظره منهم، على تشجيع الأسد على تبنّي الحل العسكري وحسم الصراع بالقوة، وقدّموا كل ما يلزم من أجل تحقيق هدفهم هذا. 

وبالمثل، وبمساعدة تواطؤ المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، وبالاستعانة بقوة سلاح الجو الروسي التدميرية، والتهجير القسري للسكان المدنيين، وتخريب الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، قبل الغرب تهميش الروس مسار جنيف بشكل سافر، ولم يعترض على سعيهم إلى الالتفاف عليه، وعلى قرارات مجلس الأمن التي تؤطره وتشكّل مرجعيته، وإيجاد مساراتٍ موازية لا تخضع لأي مرجعيةٍ قانونيةٍ وسياسيةٍ سوى إرادة الدول المشاركة فيها.

هكذا ابتدع الروس مسار أستانة ليضموا إيران إلى دائرة الدول المشاركة في التفاوض على مصير سورية وشعبها، وليقسموا المعارضة، ويدخلوا عناصر التنافس والنزاع ما بين قياداتٍ عسكريةٍ وقيادات سياسية. ثم أكملوا ذلك بفتح مسار آخر في سوتشي، بهدف سحب البساط من تحت أقدام الأمم المتحدة، والعمل على إعادة تركيب المعارضة لصالح المنصّات الأقرب إلى وجهة نظر موسكو والنظام السوري. وفي النهاية، قبلت الدول المعنية بالملف السوري خطة موسكو في تعليق مفاوضات جنيف، واستبدالها باتفاقات خفض التصعيد التي سمحت للأسد وحلفائه بتجزئة جبهات المعارضة، وانتزاع استسلامها واحدةً بعد الأخرى. وقد مكّن نجاح موسكو في تجنب مسار جنيف الدولي، واستبداله بمحادثاتٍ جانبيةٍ متعدّدة الأطراف، وإيجاد مساراتٍ موازيةٍ في أستانة وسوتشي وموسكو، وتحييد الأمم المتحدة، من الاحتفاظ بالمبادرة والعمل على الدفع نحو مفاوضاتٍ وحلولٍ تكون وحدها القادرة على التحكّم بنتائجها. وهذا هو الهدف أيضاً من عقد مؤتمر إسطنبول أمس السبت (27/10/2018)، على أمل شقّ الصف الأوروبي، والالتفاف على رفض الغرب، والمجتمع الدولي عموماً، تمويل إعادة إعمار سورية في ظل النظام ذاته الذي عمل كل ما يستطيعه لتدميرها. تجد موسكو التي ربحت الحرب من دون شك أمام فصائل المعارضة المسلحة التي فشلت في توحيد صفوفها، والعمل حسب خطة وطنية وبعيدة المدى، تجد نفسها اليوم عاجزةً عن تحقيق السلام الذي يتوقف عليه ما تأمل روسيا أن تقطفه من ثمارٍ سياسيةٍ، تتجاوز في آثارها الوضع السوري، ودور موسكو في سورية المستقبل، إلى دور روسيا المقبل على الصعيدين، الإقليمي والدولي. لا ينجم هذا العجز عن “الصحوة” الأميركية أخيراً، واكتشاف واشنطن خطر السماح بالتمدّد الإيراني في دول الإقليم، ورغبتها في إعادة تعزيز وجودها العسكري والسياسي في المنطقة، وفي سورية والعراق خصوصاً الآن، وإنما أكثر من ذلك، من افتقارها للتفكير الواقعي، واعتقادها بأنها تستطيع أن تخدع الجميع، فهي تدعو الدول الغربية إلى الانخراط في عملية إعادة الإعمار، في الوقت الذي تريد أن تحتفظ لنفسها وحلفائها المحليين والإقليميين، بالسيطرة الكاملة على مسار المفاوضات ومستقبل سورية ذاتها. وهي تريد أن تجذب المعارضة السورية إلى موقفها، وتقنعها بالاصطفاف وراء خططها “للحل السياسي” في وقتٍ لا تخفي فيه لحظةً تمسّكها بحكم الأسد، وتأكيدها على شرعيته، أي نفيها شرعية الانتفاضة الشعبية ذاتها. ما الذي سيدفع الغرب إلى تمويل الإعمار في سورية لصالح روسيا وحدها، ولماذا ستقبل المعارضة السورية التضحية بنفسها على مذبح إعادة تأهيل الأسد ونظامه، وكيف يمكن للأمم المتحدة أن تقود مفاوضاتٍ يشترط فيها، على لسان وزير خارجيته، نظامٌ امتهن القتل واستباحة حقوق الأفراد والجماعات، أن تكون له أغلبية “لجنتها الدستورية”، وأن يضمن رئاستها، وأن تجري تحت قبة برلمانه، من دون أن تثير هذه المفاوضات استهزاء العالم وسخريته؟

المصدر الأصلي للمقال: هنا

برهان غليون:
أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة
السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري
المعارض، من مؤلفاته: “بيان من أجل الديمقراطية”
و”اغتيال العقل” و”مجتمع النخبة”.

By taher