لم تكشف الثورات العربية عموماً، والثورة السورية، على وجه الخصوص، عن حجم الانتكاس الأخلاقي والتخلف الثقافي المواكب لحكم الدكتاتوريات فحسب، بل كشفت أيضاً عن مدى الانحطاط الديني. فإذا كانت الأديان، في عمومها، قائمةً على الروحانيات عقيدةً، وعلى العبادات وما يترتب عليهما من قيم التسامح والفضيلة والتآخي، فبالإمكان الاكتفاء بنظرةٍ بسيطةٍ إلى التديّن في مجتمعاتنا الراهنة، لنرى حجم التخلف والانحطاط في تلك المجتمعات. فالديانات لدينا تتناحر في حال خواءٍ روحيٍّ ما من تآخٍ فيه، ولا من تسامحٍ أو أفقٍ للاحترام معه. ولهذا الانحطاط أسبابٌ كثيرةٌ، وسأكتفي، في السياق الحالي، بالإشارة إلى رجال الدين (المشايخ)، بوصفهم سبباً جوهريّاً له.
حارب كهنوتنا الإسلامي (الشيوخ أو المشايخ) العقلَ، وأحلّ محلّه مخيالاً اجتماعيّاً يتعالى على التاريخ، وبالتالي عن النقد، بحيث تكون أمام تخييرٍ بين شرّين: إما أن تقبل هذا المخيال الاجتماعيّ دفعةً واحدةً بكل لا-معقولاته وسذاجاته وخزعبلاته، وإما أن تكون زنديقاً وكافراً وعلمانياً عميلاً لبلاد الكفر.

والمخيال المثقل بالقدسية المصطنعة والزائفة يمثّل إعاقةً حقيقيةً أمام أي محاولةٍ لإعادة قراءة ديننا، بطريقةٍ موضوعيةٍ معقولةٍ، تناسب سياقنا التاريخي الراهن، في روحانياته، وفي أبعاده الأخلاقية والسياسية والاجتماعية…إلخ، ولهذا السبب، لا يمكن للإصلاح أن يتحقق، بل ولا يمكنه أصلاً أن يبدأ، في ظل وجود سلطةٍ معنويةٍ للمشايخ بوصفهم ممثلين لحفظة الدين بشكله الإيماني الكسول.

عقلٌ أم مخيلةٌ، هذا هو السؤال؟
ومن طرافات القراءات المخيالية دعوتها الى ما يسمى بالعودة الى الأمجاد الاسلامية، عبر استرجاع الخلافة؛ مع العلم أن أي قراءةٍ بسيطةٍ لكتب التاريخ والتراث الديني يمكن أن تبيّن أن أغلب قتلى المسلمين كانوا نتيجة حروبٍ تمّت باسم الخلافة، ونذكر على سبيل المثال، صراع علي (عليه السلام) مع معاوية ابن أبي سفيان، وصراع العباسيين مع الأمويين. فلم يعرف التاريخ بربرية ودموية في القتل أكثر من دولة الخلافة. ويُنقل عن العباسيين أنهم في لحظة انقضاضهم على الخلافة، ذبحوا الأمويين، ونكّلوا بهم، ونبشوا قبورهم، وصلبوهم …، ولم يهدّ الكعبة في تاريخها سوى دولة الخلافة، ولم يعرف الفلاسفة ورجال الفكر والمعرفة محنةً أشدّ من محنتهم في زمن الخلافة، ولم يعرف التاريخ أبشع من عمليات التعذيب التي عرفتها دولة الخلافة. ويقدم التاريخ أمثلةً كثيرةً لمن يحب أن يقرأ. والكثيرون، ممن يدْعون اليوم إلى العودة إلى أمجاد المسلمين، لا يقصدون بتلك الأمجاد الفلسفة والفن والأدب، فاغلبهم يمقت هذا النوع من الأمجاد، بل ويميل إلى مخيالٍ يصوّر المسلم الحقيقي كفارسٍ على ظهر حصانٍ.
ليست الأمجاد اليوم سيفاً وترساً، بل هي اليوم علومٌ قائمةٌ على مناهج، وعلى عقلانيةٍ لا يمكن أن تتصالح مع المخيال الخرافي؛ فإما أن نعاود بناء الإنسان المسلم علماً وروحاً، عقلاً وخلقاً، عبر فتح مراكز الأبحاث، والبعثات، وإعطاء الأولوية للتعلم، وإما أن نبقى على تخلّفنا وعلى صراعاتنا الانحطاطية، التي تقسمنا ما بين سنةٍ وشيعةٍ، في عداوة المسلم للمسلم، بينما أموالنا تذهب إلى بلدان أخرى، تبني بها مصانع وجامعات، تضمن لها تقدمها علينا، ولتتركنا أو تدفعنا لنغرق نحن في التخلف واحتكارات الحقيقة المطلقة، في مذهبيةٍ يقودها جيشٌ من الأميين، أليس بعض حكامنا الأجلاّء أمّيون؟
إن الدين فضولٌ، قلقٌ للمعرفة، وليس إيماناً كسولاً؛ وهو حبٌ للآخر ودعوةٌ للتآخي، وليس عداواتٍ وضغينةً؛ وهو تحررٌ يلغي كل وصايةٍ دنيويةٍ على عقولنا، إنه رشدٌ لا يقبل بسلطة الكهنوت التي تحاول، عبر المخيال، أن تؤلّه ذاتها، بوصفها مصدر الفهم. إن الاسلام هو رفضٌ لكل أشكال التألّه الدنيوي على عقولنا، ولهذا سمي دين “لا إله إلا الله”.

ومن طرافات القراءات المخيالية دعوتها الى ما يسمى بالعودة الى الأمجاد الاسلامية، عبر استرجاع الخلافة؛ مع العلم أن أي قراءةٍ بسيطةٍ لكتب التاريخ والتراث الديني يمكن أن تبيّن أن أغلب قتلى المسلمين كانوا نتيجة حروبٍ تمّت باسم الخلافة،

أحمد اليوسف، كاتب سوري دكتور في الفلسلفة.

By Mohanad Albaaly

A trained lawyer since 1997 and licensed by Damascus University Council. Mohanad is a human rights activits and he's also an editor at the MPC Journal in Arabic.