منذ الانقلاب الناعم داخل العائلة المالكة وصعود ابن الملك سلمان وليّاً للعهد، تحوّلت المملكة من استراتيجيّة الدفاع الحذر إلى استراتيجيّة الهجوم الكاسح. صعود ترامب  فى أمريكا والمشير السيسي فى مصر شكّل دعماً قويّاً للسّعوديّة فى صراعها مع أعدائها التّقليديين فى المنطقة، كذلك “أعداء الداخل.”

اختفاء الخاشقجي يشكّل ضربة قويّة “لأعداء الدّاخل السعودي” المتحالفين مع أجندات إقليمية عيونها على النفط والأماكن المقدّسة و”الإيديولوجيا الوهّابيّة”، تلك التى انتشرت في كلّ البلدان  ذات الأغلبية العربية والمسلمة.

الحدث

خاشقجي ضربه الجهاز الذي طالما عمل فيه، ووقع فى الحفرة التى حفر أمثالها لأكثر من شخصيّة عندما كان وفيّاً لفصيل من العائلة الحاكمة.

هؤلاء الذين انصدموا من طريقة قتل خاشقجي، عليهم أن يعلموا أن الجنديّ المحارب والجزّار المحترف يتعطّشون للدّماء تعطّش الصّحراء للماء، والشاة لا يؤذيها سلخها بعد ذبحها، ومشهد السّلخ يؤذي “الصّغار” فى حين لا يحرّك شعرة فى “الكبار.” كبار القوم قادتهم لا ساستهم.

الدارس الجيّد لسيناريو القتل يدرك أن العمليّة معدّة سلفاً بتنسيق بين المخابرات السعوديّة والتّركيّة والأمريكيّة. ما نشاهده الآن من تحرّكات ساسة هذه البلدان مسرحيّة مخرجها تحالفاتهم السياسية ضمن النظام العالمي الجديد.

لتنفيذ العمليّة وقع الاعتماد على العناصر التالية :

ــ عنصر استدراج لعبت فيه الشريكة التّركيّة دوراً رئيسيّاً.

ــ عنصر استنطاق جاء مع مجموعة من خمسة عشر رجلاً، نزلت بمطار اسطنبول يوم اختفاء الضّحيّة.

ــ عنصر قتل وتعذيب قام بتشريح وتقطيع الضّحيّة أو تذويبها بالحامض ومثّله الطبيب الشّرعي وجلاّد محترف.

ــ عنصر طمس الجريمة حيث شارك الجميع بما فيهم القنصل فى نقل الآثار فى حقائب ديبلوماسيّة خارج تركيا.

بعد بن لادن و معمّر القذّافى، يدخل الإعلامي جمال خاشقجي نادى “القبور المجهولة” وكأن العمليّة جاءت لتتمّم حلقة من يخشاهم “النّيوكلاسيك” فى عالم يحكمه الإعلام قبل الحكومات. “النيوكلاسيك” ليسوا فى أمريكا فقط.

الملاحظ أن الفريق السّعودي دخل الى القنصليّة مشغولاً مطأطأ الرؤوس من كبر حجم ما ينتظرهم، وخرج مرفوع الرأس مزهوّاً منشرحاً حتى أن أحدهم كان يلفّ رقبته بعلم بلاده كأنّه خارج لتوّه من مقابلة فى كرة القدم بين نادى بنى أميّة وإتّحاد العثمانيين.

ما السبب إذاً؟

الحاضر يفسّر بالتاريخ قبل المستقبل باعتباره نتيجة قبل أن يكون سبباً.

القتل، وطريقته، تعكس خطورة المعلومات التى أفشاها الخاشقجي أو التى هدّد بإفشائها. معلومات يبدو أنّها تمسّ العائلة الحاكمة وأمن الدّولة. جمال تمرّد على أسياده بالرّغم أنه مخابراتي يعرف أنه لهذه الأجهزة أصحاب مهمّات قذرة لا يتردّدون لحظة فى تنفيذ ما يؤمرون .

الغالب أن الخاشقجى انخرط فى المشروع القطري فى المنطقة دون حماية تركيّة أمريكيّة تقليديّة. والدّليل بكاء ونواح قناة الجزيرة عليه، حتى أن موضوعه يحتلّ إلى الآن أكثر من نصف أخبارها فى سابقة لم يحض بها حتى صحافيو القناة الذين قتلوا سابقاً.

الروس والصينيون لم يتدخّلوا مطلقا فى القضيّة، وأملهم توتّر فى العلاقات السعوديّة الغربيّة التى قد تجعل المملكة تحذو حذو الكويت بعقدها اتّفاقيات استرتيجية عسكريّة ومدنيّة  مع الصّين، وتوقّف صادراتها من النّفط إلى أمريكا.

صواريخ إس 300 وإس 400 الروسيّة أصبحت سلاحاً مضاداً لأمريكا قبل أن تكون مضادّة للطائرات، وروسيا جاهزة لتسليم هذا السلاح الفتّاك لكلّ دولة عربيّة تحمى مصالحها في المنطقة.

المقاول ترامب يعتبر السياسة مناقصة وجب الانخراط فى صفقاتها مقابل الدولار، والسعوديّة جاهزة للدفع لمن يحمى مصالحها.

أردوغان يعانى  من مشاكل خارجيّة وداخليّة سياسية وعسكريّة واقتصاديّة، حتى أن حزبه يفكّر جدّيا فى إسقاطه واستبداله بعبد الله غول. تململ فى حزب أردوغان بعد الهبوط الغير المسبوق للّيرة وقبوله المهين للأتراك لهديّة أمير قطر (الطائرة العملاقة والفاخرة)، وعدة تهم فساد تخصّ قريبه وزير الماليّة.

أردوغان رضخ للسعوديّة لانّه يعلم جيّداً أن المملكة تحت إمرتها جماعات مسلّحة شمال سوريا قادرة فى أي لحظة تحويل الداخل السّياحي التركى إلى جحيم.

الإغتيال رسالة غير مباشرة للذين يحتمون بتركيا ظانّين أنها الملاذ الآمن. المعارضون العرب هناك بقدر ما يجدون تجاوباً مع أوردغان بقدر ما يجدون رفضاً يصل حدّ العنصريّة من أغلب الأتراك الذين يتعالون على العرب.

ماذابعد؟

أخبار ترَوّج الآن عن إمكانيّة تغيير الأمير محمد بن سلمان بالأمير خالد، والاقرب أنها مسكّنات للاستهلاك الإعلامى والسّياسي . الإنحناء للعاصفة واجب حين تقتضى المصلحة.

آخر خبر خاص عن المنطقة يفيد بأن الحفّارة المصريّة العملاقة التى حفّرت قناة السّويس هي الآن فى طريقها الى الحدود السعوديّة القطريّة … تجاوزت البحر الأحمر فى طريقها لحفر “قناة سلوى” والتى ستحوّل قطر الى جزيرة.

هل ستقطّع السعوديّة قطر بعدما قطّعت خاشقجى؟

هل سيكتب التاريخ يوما بأنّ جيش مصر حوّل دولة عربيّة الى جزيرة ؟

هل ستتحوّل صاحبة قناة “الجزيرة” إلى جزيرة ؟

فى حوار مع استراتيجى عربي كتب لى “امريكا ستسحب قريبا قاعدتها من قطر لانها اصبحت بلا فائدة،  فلأمريكا قواعد فى تركيا والعراق وفلسطين وأفغانستان والغرض منها تطويق إيران وتحصين الناتو ضدّ روسيا.

كش مات الخاشقجي، فمن سيكوت بعده؟

هذه ارتدادات “الربيع العربي” والقادم أقوى وأشدّ.

الكاتب رضا يوسف احمودي