لم تزد الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي للمملكة السعودية درجة الفتور في العلاقات الإستراتيجية فقط، بل أكدت التوّجه السعودي نحو سياسة المواجهات و الاستقلالية في القرار الإقليمي خاصة بعد انخفاض أسعار النفط و اتهامها بنشر الفكر الوهابي ‘المتشدد’ بالإضافة الى النفوذ الدولي المتصاعد لإيران. يجدر التذكير انّ اندلاع  ثورات الربيع العربي قد وضع السعودية في مواجهة مباشرة مع إيران من خلال التنافس الجيوسياسي و الاستراتيجي في إطار ‘الحرب الباردة’ الجديدة و العلنية على هامش الثورة السورية و الاقتتال اليمني و الحراك الاحتجاجي في البحرين. و بالتالي تعد حالة الفوضى الأمنية في منطقة الشرق الأوسط و ازدياد حدة التوتر و التوجس من السلوك الإيراني، بالإضافة الى سياسة التذبذب أو الانعزال للولايات المتحدة الأمريكية من أهم العوامل التي دفعت السعودية لتبني الخيار العسكري كخطوة للدفاع عن أمنها القومي و مصالحها بالإضافة الى الحفاظ على دورها الريادي في المنطقة في طلّ الامتداد و الحضور الإيراني  المؤثر في اغلب ملفات و أزمات الراهنة.

أصبح التوازن الاستراتيجي بين مختلف القوى الفاعلة في منطقة الخليج العربي ينقسم الى تحالفات إقليمية تتصدرّها المملكة العربية السعودية و إيران، و ندرك من خلال حالة التطوّر أو التغيّر من طور الخلافات الإيديولوجية ‘دينية’  و تنافس اقتصادي و سياسي بين هاتين الدولتين الى سياسة تكتلات تعكس جديّة تقاسم النفوذ في الصراعات الدموية في كلّ من سوريا و اليمن و العراق، بالإضافة الى النزاع حول المدّ الشيعي في البحرين على المنطقة.  لقد تمكنت القيادة السعودية و حلفاءها من دول مجلس التعاون الخليجي تجاوز بالكثير من ‘الحكمة’ المتغيرات و التحديات التي فرضتها ثورات الربيع العربي المندلعة في دول الجوار، خاصة في البحرين و اليمن و سوريا، بتوّجه واضح نحو  استراتيجيات التدخّل العسكري و السياسي المباشر و اخذ بزمام المبادرة في التعامل مع الأزمات عوضا عن الاقتصار على العلاقات الدبلوماسية أو النفوذ الاقتصادي في المنطقة.

و قد تعزّز النفوذ السعودي في المنطقة العربية بإقامة تحالف إسلامي عسكري لمكافحة الإرهاب يضم 34 دولة، كردّ علنيّ و عمليّ ليس فقط على تمدد خطر تنظيم الدولة ‘داعش’ الإرهابي على حدود منطقة الخليج بل أيضا لمواجهة ازدياد النفوذ الإيراني، المدعوم بتقارب أمريكي-روسي، في ظلّ فراغ امني استراتيجي في منطقة تعصف بها الأزمة السورية (ميليشيات مسلّحة/تنظيمات إرهابية/ انقسامات طائفية/…) . و كذلك انخرطت السعودية في إستراتيجية الهجوم العسكري في اليمن بعد أن أعلنت عملية ‘ عاصفة الحزم’  مع حلفاءها الخليجين بغية تحرير العاصمة صنعاء من قبضة الحوثيين و العبد الله صالح. و قد فتحت الأزمة السورية و الخطر الداعشي منطقة الشرق الأوسط  للأجندات السياسية التنافسية بين مختلف القوى الإقليمية، حيث أعادت القوى التقليدية انخراطها في تقاسم الأدوار من خلال إقامة تحالف بقيادة الأمريكية  يضم اغلب الدول الإسلامية (السعودية) و أيضا تحالف تحت القيادة الروسية يضم نظام الأسد، العراق، إيران و حزب الله. و بالتالي، يصبح التحالف الإسلامي العسكري ذو أهمية رمزية، متناسق مع السياق العام لمرحلة إعادة توزيع موازين القوى في المنطقة، باعتباره مشروعا سياسيا تسعى المملكة السعودية من خلاله التأثير على المواقف الروسية من الأزمة السورية و التقارب الإيراني-الأمريكي، مما يوفر لها أوراق ضغط و استقلالية في اتخاذ القرار مع استمرار الخلاف بين المقاربات السعودية و الإيرانية حول كيفية إدارة الصراعات.

و على الرغم من تدعيات سياسة التدخل العسكري، فانّ التوّجه الخليجي بقيادة السعودية يغلب عليه إستراتيجية ملئ الفراغ الأمني الإقليمي في المنطقة العربية بسبب  انغماس مصر و سوريا و العراق في مشاكل داخلية مثل الاقتتال، محاربة الإرهاب و إعادة بناء الدولة. و من ناحية أخرى فانّ هذه السياسة تجعل من الطرف السعودي فاعلا أساسيا في خلق التوازن الاستراتيجي اللازم في ظلّ تواصل التدخل الإيراني في دول الجوار و تكثيف حضورها في المشهد الإقليمي خاصة في البحرين، سوريا و اليمن. و بالتالي، و في ضوء التاريخ الطويل للصراع الإيراني السعودي، يصبح احد أهم أهداف التحرك العسكري و السياسي تحجيم دور إيران بالمنطقة و احتواء الفراغ الأمني. و تتهم القيادة السعودية إيران بالتصعيد و دعم الحراك الاحتجاجي في البحرين و التدخل الحرس الثوري في الاقتتال السوري، بالإضافة الى دعم لوجيستي لقوات الحوثية  في اليمن من اجل فرض الهيمنة على المنطقة كقوة إقليمية نووية.

و ندرك في هذا الإطار انّ دول الخليج تنخرط منذ سقوط نظام صدام حسين 2003 و وصول حكومة شيعية للحكم موالية لإيران في إستراتيجية معادية للمدّ الشيعي المسيّس ليصبح صراع موازين القوى في المنطقة العربية محكوما في جانب من جوانبه بحماية القيادة السنية ضد تضخم الدور الشيعي. و ظهر الصراع المذهبي الشيعي السني في قمة حدته اثر قيام السعودية بإعدام 47 شخصا في 2 جانفي الماضي، ضالعين في عمليات إرهابية و تحريض على استقرار الأمني، من بينهم  المعارض السياسي ‘الشيعي’ نمر النمر، ما تسبب في اندلاع تحركات احتجاجية و مظاهرات استنكار في طهران الى درجة حرق السفارة السعودية و قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.  و كما سبق و أن ذكرنا،  فالصراع السعودي الإيراني ليس بجديد بل كان آيات الله الخميني ينتقد السياسة السعودية و يتهمها بالتبعية للولايات المتحدة الأمريكية و السكوت عن المجازر الاسرائلية في فلسطين. و في ذات الوقت، كانت القيادة السعودية تعبّر عن توجسها و عدم ثقتها في الحكام الجدد لإيران بعد اندلاع الثورة الإسلامية 1979، و لذلك قد دعمت القيادات السعودية صدام حسين في حربه ضد إيران ( 1980-1988). و فيما بعد انفردت إيران بالهيمنة على المشهد العراقي بعد الاحتلال العراقي 2003, و حرصت أيضا على حشد الأغلبية الشيعية في البحرين 2011 للقيام بتغيير النظام. و قد حسمت العربية السعودية الحراك الاحتجاجي في البحرين و المواجهات مع السلطة بإسناد عسكري و سياسي لصالح السلطة السنية القائمة. و يتمدد هذا الصراع أو التنافس في الكثير من الدول الأخرى مثل لبنان ،سوريا و اليمن.

و يمكن تفسير انّ سياسة التدخل العسكري الخليجي خدمت المصالح الإستراتيجية للمملكة السعودية، بعد أن تمّ تهميشها في الاتفاق النووي بين إيران و الدول الغربية، بعزل إيران إقليميا خاصة بعد الانسحاب الروسي من سوريا و الخلاف حول  فرضية بقاء ‘بشار الأسد’ و تذبذب صناع القرار البيت الأبيض في حسم مستقبل الأزمة السورية و القضاء على داعش. و لا شك انّ تغيير مسار النزاعات الداخلية في اليمن أو سوريا من اقتتال حول السلطة أو الشرعية السياسية الى حروب حول الهوية الطائفية، كما تسعى إيران، سيصطدم بواقع الحضور السني في العالم بنسبة85 % مقابل 15 % للطائفة الشيعية الذي يجعل من السهل عزل الدبلوماسية الإيرانية و إحراجها إقليميا خاصة مع الغالبية السنية في اغلب الدول الغربية أو الإسلامية. بالرغم انّ مسالة الاختلاف المذهبي الشيعي-السني ترجع الى أكثر من 14 قرن  و لطالما سببت أزمات تعايش اجتماعي، إلا أنها تحوّلت الى تنافس سياسي و عسكري واضح بين إيران و السعودية التي ازدادت حدتها و أصبحت عامل توتر بعد اندلاع ثورات الربيع العربي.

على هذه الخلفية، عملت السعودية على التنسيق و جمع العديد من الدول الحليفة حول توجهاتها في السياسة الخارجية، مع الالتزام بالاندماج العمليّ و الحاسم في إدارة الأزمات و مواجهة تحديات المرحلة الراهنة في المنطقة العربية و الانخراط الفعليّ في حرب باردة مع المنافس الإقليمي إيران من خلال حروب بالنيابة يخوضها الطرفين عسكريا و دبلوماسيا و مذهبيا في كامل العالم العربي. و يمكن أن نتساءل في الأخير حول درجة نجاح السعودية في تحقيق أهدافها من  سياسة التدخل العسكري، حيث نلاحظ انسحابا و هدوءا إيرانيا بعد انسحاب القوات روسية من سوريا  و انشغال الإدارة الأمريكية  بانتخاباتها، و كذلك الحسم المقترب للصراع في اليمن لصالح الحليف السعودي بالإضافة الى تهجير الصراع الإقليمي الى ليبيا بعد تراجع سطوة تنظيم الدولة الإرهابي في العراق و سوريا.

بالرغم انّ مسالة الاختلاف المذهبي الشيعي-السني ترجع الى أكثر من 14 قرن  و لطالما سببت أزمات تعايش اجتماعي، إلا أنها تحوّلت الى تنافس سياسي و عسكري واضح بين إيران و السعودية التي ازدادت حدتها و أصبحت عامل توتر بعد اندلاع ثورات الربيع العربي.

سهام الدريسي باحثة في الجامعة التونسية، مهتمة بالعلاقات الدولية و التحول الديمقراطي في دول العربية