إن المعتقد الديني في شكله ومضمونه وأسلوب ممارسته من المفترض أن يكون شأنٌ شخصيٌ بحت لكنه ليس كذلك في مجتمعاتنا العربية عموماً وفي الحالة السورية خصوصاً لأسباب عدة بعضها تاريخي وبعضها متعلق بتعقيدات الوضع السوري. فالمسلمون عموماً والسوريون منهم بشكل خاص يعانون من جرح نرجسي في موضوع الدين بسبب شعورهم أنهم مستهدفون بدينهم قبل أي شيء آخر وهذه النرجسية تتضخم مع الجهل المتعدد الأبعاد (جهل في التاريخ، في السياسة، في الاجتماع، في عوامل التقدم والتخلف، في الثقافة بعمومها الخ). في هذا المناخ يبدو قول الحقيقة عارية نوعاً من السباحة ضد التيار لكني أوقن يوماً بعد يوم ضرورة هذه السباحة فالتغيير يبدأ بالفكر وتغيير الفكر عمل تراكمي لا يأتي دفعة واحدة بل يحتاج إلى تفكير ومراجعة وقراءة مواظبة كما أنه قد يحتاج إلى صدمات قاسية. إن مواجهة الناس بالحقيقة (حقيقة ما هي عليه) تخلق في المرة الأولى حالة إنكار يكون التعبير عنها بردود الأفعال العنيفة كالشتائم أو الإلغاء والتي تتناسب حدتها مع درجة الجهل.

هل يمكن اعتبار الشرع المفروض علينا أنه شرع الله؟! الموضوع بالنسبة لي ليس محض لغة إذ لا يوجد الآن “شرع الله” واحداً موحداً ومتفق عليه بين جميع المسلمين وأي متصفح الآن للشبكة العنكبوتية سيجد أن فقهاء المسلمين في الماضي والحاضر لم يتفقوا 100% على تفسير الكثير والكثير من آيات القرآن وهذا الخلاف في التفسير طال في كثير من الأحيان بعضاً من الآيات التي يمكن اعتبارها مركزية في الإسلام عدا عن الخلاف الأكبر في موضوع السنة النبوية.. وبالتالي “شرع الله” هي مقولة فارغة إلى حد كبير من أي مضمون واضح ومتفق عليه بل ما نجده تحت هذه التسمية لا يعدو أن يكون اجتهادات فقهية لأناس ماتوا وتحولت عظامهم إلى مكاحل!

إذن ما هو “شرع الله”؟! باختصار لدينا قيم أخلاقية عامة أكد عليها الإسلام (ما بُعث محمد إلا لإتمامها) كما أكدت عليها شرائع أخرى دينية وعلمانية وهي نفسها قيم الثورات الشعبية عبر التاريخ من حرية ومساواة وعدالة الخ. أو ليست من المفترض أن تكون هذه القيم هي الحاكم على أي شريعة مهما ادعى أصحابها من “ألوهية”؟! أعتقد أن كل شيء يجب أن يكون خاضعاً للعقل، الإمام الأول للإنسان والكتاب الثاني في الخلق حيث أن الكتاب الأول هو الكون بأسره. فالقرآن و مع ما سبقه من كتب سماوية جاءت لاحقاً لتساعد الإنسان على ضبط شروره ، لكنها تبقى ويجب أن تبقى خاضعة للعقل ومنطق الكون ! هل ساعدنا القرآن في اكتشاف قوانين الطبيعة من جاذبية وحركة ؟ هل كان للقرآن دورٌ في اكتشاف المجموعة الشمسية وكروية الأرض ؟ هل كان للقرآن دورٌ في اكتشاف قوانين الطاقة والنظرية النسبية ؟!!!

 خضوع القرآن للعقل سيقودنا حتماً إلى تجاوزه بنصّيته نحو مقاصده على ما ذهب الفيلسوف ابن رشد الذي ابتكر مقولة التأويل العقلي ، وهذا ربما ما يُرعِب المسلمين من أصحاب الجرح النرجسي إذ أنهم بذلك سيجدون أنفسهم عراة دون “فكرة كبرى” تجعلهم مركز الكون ! نعم يا سادة نحنا لسنا مركز الكون فقد خسر المسلمون هذا المركز منذ 800 عام بل أنهم خرجوا تماماً من دائرة الفعل والتأثير. ولن يعودوا إليها طالما يعتبرون أنفسم “خير أمة أُخرحت للناس” فمن كانوا أفضل الأمم كيف سيتعملون و مِمن ؟! منذ حوالي تسعة قرون وقبل خروج المسلمين من التاريخ كان ابن رشد يعالج قضية التناقض بين العلم والدين ببراعة غير مسبوقة وغير ملحوقة في تاريخنا لكنها كانت نقطة البداية لتاريخ أوروبا الحديث. ذلك الرجل الأندلسي رفض التأويل الباطني للشيعة كما رفض تخفيض العقل إلى مجرد الفهم كما فعل التيار السائد عند السنة. ثم ابتكر مبدأ ان الشريعة هي اجتماع عنصري الوحي والعقل و ما ظاهره يخالف العقل يقبل التأويل. بمعني أنه عند حدوث تناقض بين الدين والعقل (أو أحد منتجاته العلمية) يجب الأخذ بالعقل وإعادة تأويل الدين بما يتناسب مع مقتضيات العقل وليس العكس.

كخاتمة سأعرج على بعض المتفهمنين الذي يسألون السؤال التالي :  “هل الله خالق الكون أو الكون موجود بالصدفة؟ وهل تؤمن بوجود الله عز وجل والقرآن أم لا؟ سأستخدم هذا السؤال للإشارة إلى زاوية أخرى تشكل عقبة جدية أمام أي نقاش جدي في موضوع الدين وهي سلاح التكفير وهي النسخة الإسلاموية من سلاح التخوين الذي دأبت السلطات المستبدة “العلمانية” على استخدامه ضد معارضيها. هنا يحاول صاحب الكلام “سحق” الخصم عبر إحراجه بسلاح التكفير الذي لا يرى أصحابه الدنيا إلا من خلال لوينين “أبيض أو أسود” تماما كما سلطات الاستبداد. وإن نصبت هذه الأخيرة نفسها حارسة للوطن على مبدأ “حاميها حراميها” ف”حراس الله ورسوله” الذين يشهرون سلاح التكفير أينما حل نقاش ديني هم من نفس الطينة الفكرية بل إن تجارة الدين بهذا الشكل الرخيص يجعلهم في مقام أسوأ !

خضوع القرآن للعقل سيقودنا حتماً إلى تجاوزه بنصّيته نحو مقاصده على ما ذهب الفيلسوف ابن رشد الذي ابتكر مقولة التأويل العقلي وهذا ربما ما يُرعب المسلمين من أصحاب الجرح النرجسي.


أحمد سعد الدين، دكتوراة اقتصاد زراعي، باحث سابق في جامعة فلورنس، حالياً خبير في منظمة الفاو