أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نيته بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس, في تصريح ألقاه من البيت الأبيض في السابع من ديسمبر الجاري قال فيه أن “الوقت قد حان لإعلان القدس كعاصمة لإسرائيل.” خطوة تعتبر تصعيداً سياسياً إقليمياً في قضية إعلان مصير مدينة القدس كأحد أهم نقاط الخلاف في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. انتفض الشارع العربي منذ يوم الجمعة, الثامن من ديسمبر, وصفحات التواصل الاجتماعي الناطقة باللغة العربية ضد إعلان الرئيس الأمريكي.

يتناول هذا المقال جزء من الطروحات المصاحبة لردات الفعل حول القرار المذكور, بالتحديد توجه الإسلام السياسي التقليدي المبني على استخدام النبوءات الدينية في تحليل الواقع السياسي بما يتعلق بالقدس. المقصود بالإسلام السياسي التقليدي هنا, المدارس الإسلامية بمختلف مشاربها السلفية أوالصوفية, المنخرطة بالشأن السياسي العام من خلال منابرها الدينية ضمن أطر أنظمة الحكم في بلدانها.

الحدث, وردات الفعل

أثار إعلان ترامب موجة من الانتقادات على مستويات التمثيل السياسي العليا عربياً وعالمياً من طهران إلى لندن. لم يكن التنديد على المستوى الرسمي فقط, خرجت العديد من المظاهرات الغاضبة في  العديد من دول العالم.

بعض هذه المظاهرات كانت حالة تنفيس غضب شعبي دون وجود مطالب سياسية واضحة تضغط بها الجماعات المتظاهرة على حكومات بلادها لتحقيق مطالبها. في الخليل, في الضفة الغربية, كان صوت المظاهرات عالياً وواضحاً بمطالبة السلطة الفلسطينية بالرجوع إلى ما قبل اتفاقية أوسلو, مما يعني حل نفسها كسلطة شرعية والعودة لإطار منظمة التحرير الفلسطينية.

عربياً, أصبحت ظاهرة التظاهرالالكتروني أكثر شيوعاً مع هذه الموجة الغاضبة ضد القرارت الأمريكية بما يتعلق بالقدس. حملة تغيير لصورة البروفايل لا يمكن أن تفوت أي مستخدم لشبكات التواصل الاجتماعي ضمن دوائر المستخدمين الناطقين بالعربية, صاحبت الحملة الاحتجاجية حملات مضادة أيضاً انتشرت تنتقد سابقاتها بأنها غير ذات جدوى في ظل الوضع السياسي الذي تعيشه المنطقة. يبدو أن المتابع العربي يبحث عن أي طريقة للتعبير عن تضامنه مع القضايا التي يتماهى معها, ترتفع نسب المشاركة الالكترونية مع انخفاض تكلفتها. وتتميز هذه الحملة الالكترونية أيضاً بترديد نبوءات دينية  لها علاقة بمستقبل مدينة القدس, نبوءات تدعوا للمزيد من التراجع عن المشاركة السياسية لصالح الرضا “بالقدر.”

النبوءة

أحد أبرز ردات الفعل على إعلان ترامب بما يتعلق بالقدس كانت إسلامية سياسية تتبنى خطاباً نبوءاتياً يرى تحرير القدس أمراً مستقبلياً مفروغاً منه, و “قضاءً” قادم لا محال. يعتمد أصحاب وجهة النظر هذه على الآيات القرآنية 4-7 من سورة الإسراء:

(وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 4* فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا 5* ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا 6* إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا 6* عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا7)

يختلف المفسرون حول الوعدين المذكورين في الآيات. بعض المفسرين, وأهمهم ابن كثير, يرون في الآية سرداً تاريخياً لا مستقبلياً, فيرون أن الحدثان وقعا قبل تبليغ الرسول محمد للآيات. يرى هؤلاء أن “الإفساد” الأول في الآية خمسة كان بـ “تسليط” جالوت على بني اسرائيل, حيث انتصروا عليه وقامت شوكتهم من جديد ليكون نبوخذنصر هو “الإفساد” الثاني المقصود في الآية ستة. صالح الفوزان, الشيخ السلفي المعاصر, من متبعي هذا التفسير ويرى في (وإن عدتم عدنا) تهديداً إلهياً مستمراً “لليهود, فيسلط عليهم الجبابرة و عدوهم كلما حصل منهم علو في الأرض” حسب تعبيره (مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان ( 1 / 156 9 .في إشارة للمجازر ضد اليهود خلال الحكم النازي في أوروبا في النصف الأول من القرن الماضي.

مجموعة من المفسرين يقولون أن الــ “فإذا” في الآية القرآنية تدل على المستقبل, وأن الإفسادين لم يحدثا بعد. يقول علي الكيالي, أحد المفسرين المعاصرين المؤيدين لهذه الرؤية والذي يوصف في بعض الأوساط الدعوية على أنه ذا منهج علمي, أن العباد الأشداء المذكورون في الآية خمسة هم المسلمون, وأن المخاطب في الآية ستة هم بنو اسرائيل حسب فهم الكيالي, فها قد أخذوا الأرض مرة ثانية بمدد مالي وبشري معين, ولكن النهاية للمسلمين كما تصف الآية سبعة حيث المخاطب بها بنو اسرائيل, والمقصود هنا أن القدس ستعود للمسلمين كما أخذها المسلمون في القرن السابع الميلادي.

يتفق الشيخ محمد المفامسي أن الحدثين لم يكونا قد وقعا في عهد النبي محمد. فالدخول الأول هو دخول اليهود للقدس في القرن العشرين, حسب قوله, وسيهزمون قريباً هناك, وسيكون دخولهم الثاني قبل نهاية الزمان ومع اقتراب يوم القيامة. يختلف المغامسي مع سابقيه حيث يرى أن المخاطب في كل الآيات هم بنو اسرائيل وليس المسلمين. في ظل هذا التفسير, يقول المفامسي أنه “في غضون ستة إلى عشرة أعوام سينتصر المسلمون على بني اسرائيل. قد لا تنتهي دولتهم, و قد يبقوا في تل أبيب, على الأقل سيخرجون من بيت المقدس.”

 أين اللغظ؟

يبدو تفسير ابن كثير الأكثر عقلانية, إذا يتناول النص كسرد تاريخي بغض النظر عن صحة هذه الأحداث التاريخية, بينما تقع التفسيرات الأخرى في عدد من الأخطاء المنطقية أهمها:

  • على فرض أن هذه نبوءة إلهية, فمن الذي قال أن أحداث هذا العصر هي المقصودة بالنبوءة. قد يجادل أحدهم بنفس المنطق أن الحملات الصليبية وما تخللها من سيطرة متبادلة على القدس هي المقصودة بهذه النبوءة. تفتقر وجهات النظر هذه لأي مصداقية تاريخية.
  • يقع الفريق الثاني من المفسرين في لغط اعتبار اليهود المهاجرين إلى فلسطين خلال القرن العشرين من سلالة بني اسرائيل, مما يعطيهم صفة إثنية غالباً ما يرفضها الإسلاميون والعروبيون أنفسهم في الحديث عن الهجرات اليهودية لفلسطين, مستشهدين باليهود الأفارقة واليهود الروس ومدى احتمالية أن يكونوا من سلالة العبرانيين.
  • يدعوا الإيمان بهذه النبوءة بطريقة غير مباشرة إلى التسليم بالواقع الحالي, وعدم العمل للوصول لحل سياسي.
  • ترسخ الشعور بالعجز, الذي أدى سابقاً إلى تحول الكثير من المسلمين عن هذه السرديات التقليدية باتجاه مدارس سياسية دينية أكثر تشدداً, كالسلفية الجهادية.
  • تبرر للحكام تجاهلهم اتجاه الوضع الإقليمي المضطرب ومطالب شعوبهم.
  • ترسخ هذه النبوءات العقيدة الدينية كمنطلق للفكر السياسي لدى الأفراد, وكمنطلق للنشاط أو الركون السياسي.

ماذا وراء هذه التفاسير؟

يقول المفامسي, في آخر اللقاء الذي يشرح به الدلالات التي أفضت إلى وجهة نظره تلك, أن لا بأس على القدس من أعدائها, أن على السعوديين الالتفاف حول قيادتهم, فالخروج على الحاكم محرم, والالتفاف حوله ووحدة صف المسلمين, حسب وصفه, هي الطريق الوحيدة للوصول إلى المنال, ومن هذا المنال تحرير الأرض. يوصي المغامسي المستمعين بالابتعاد عن “الفتن والفرقة”, كي لا ينتهي الأمر بهم كهؤلاء الذين حاولوا أن يغيروا حكامهم فصارت حالهم أسوأ كما يقول. الرسالة واضحة في كلام الشيخ, وهو أن الله متكفل بحال القدس, وكل ما على الناس هو الطاعة والعبادة والتمسك بالحاكم حتى يأتي اليوم الذي تتحقق فيه النبوءة.

هذه التفاسير المستقبلية للنص القرآني, أداة تاريخية من أدوات التجميد الفكر والنشاط السياسي عند المدارس الإسلامية التقليدية التي تتبعها. تقدم هذه التفاسير حجة أمام الجماهير المنفعلة اتجاه عاطفتها الدينية ازاء ما يحدث في القدس, وتوجه الجموع عبر المشايخ والمنابر الدينية أن “رب القدس يتكفل بالقدس”, والفحوى الأكبر والأعمق لهذه الرسالة, أن “رب السياسة يتكفل بالسياسة” بينما يتضح للمراقب للمجتمعات في غرب آسيا وشمال إفريقيا, أن المؤسساة الدينية تلعب دوراً جوهرياً في “ترويض” أو “تحريض” الأفراد لما يتوافق مع اللحظة التاريخية ومصالحها خلالها, فتارةً يحرض هؤلاء السلفيون التقليديون على القتال مع السلفية الجهادية في سوريا والعراق, وتارة يصفون السلفية الجهادية بالإرهاب ويكفّون الشباب عن الالتحاق بها.

يتداول أصحاب التوجه الإسلامي سياسياً بمختلف مشاربهم الآية القرآنية من سورة الإسراء بثقة دينية كبيرة. هذه النبوئات الدينية ليست بغريبة عن سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على جانبي الصراع, ولكنها تأتي اليوم في مجتمعات ما بعد الربيع العربي, بعيد سنوات من غليان الشوارع العربية بعد أن عاشت رقاداً دام لأكثر من ثلاثة عقود. لعل الربيع العربي لم يوصل المجتمعات في البلدان التي انتفضت لليوتوبيا المتخيلة لدى ثوريي اليمين واليسار, ولعل المغامسي “واقعي” في رأيه عن حال الشعوب المنتفضة, ولكنه عن قصد أو مدفوعاً بإيمانٍ ديني عميق, يشارك هو والجوقة الدينية التنبؤية بإعادة الشارع السياسي ليس إلى داخل جدارن بيته فقط بعيداً عن المظاهرات اليومية ضد الذين ينهبون إرادته السياسية, بل إلى قمقمه الفكري, حيث كل شيء بإرادة الله وبأمر الله وبقضاء الله والشعوب عليها أن تتابع بصمت وبرضا.

بالطبع هذه ليست دعوة للانتفاض على الإسلاميين التقليديين من سلفيين ومتصوفة بالتوجه نحو السلفية الجهادية, بل للانخراط الواعي بالأحداث السياسية التي تمر بها المنطقة.

الكاتب: مصطفى قره حمد