لم يكن للإسلام شكلاً واحداً، على الأقل منذ عصر الصراع بين علي ومعاوية، فقد تعددت تجلياته وتصوراته بحسب الصراعات والمصالح التي نشأت ونمت في سيرورة التاريخ الإسلامي، فالإسلام يتحدد قبل كل شيء بالمسلمين الذين يؤمونون به وبظروف حياتهم وطريقة إنتاجهم لمجتمعاتهم بكل ما فيها من معارف وطرق إدارة. وتكفي نظرة عامة على التاريخ العربي الإسلامي للاستدلال على أن بعض من إرهاصات “الحداثة” قد ظهرت بين الحين والآخر في مسار الأحداث وتمثلت بالتفاعل الإيجابي مع تراث الحضارات السابقة على الإسلام وتوظيفه وتطويره في سياق جديد وهذا ما يظهر جلياً في المذهب الاعتزالي وجهود الفلاسفة العقلانيين مثل الفارابي وابن رشد وابن خلدون.

وتتعدد الأسباب التي أدت إلى تعثر المسارات الواعدة في الحضارة الإسلامية الأمر الذي أدى إلى أفول نجمها وتوقفها عن المساهمة الإيجابية في مسيرة التقدم الإنساني (إلا كحالات فردية). وإن كان من هذه الأسباب عوامل موضوعية تمثل في تحول الطرق التجارية (بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح) وفقدان المنطقة العربية وسائل الاحتكاك المباشر مع باقي الحضارات، فقد كانت العوامل الذاتية حاسمة في إفقار “الروح الإسلامية” من عوامل التمرد السياسي والفكري، فهيمن النقل على العقل والفقه على الفلسفة وهيمنت مقولة “علوم الدين” باعتبارها العلوم الحق على حساب العلوم الوضعية، وتكرست أشكال من التنظيم الاجتماعي تقوم على أخلاق الطاعة بدلاً من أخلاق العدالة، وتم بذلك أسطرة مرحلة معينة من التاريخ الإسلامي (مرحلة الرسول والخلفاء الراشدين) عبر تغييب أو تجميل عيوبها (وبالتالي إلغاء تاريخيتها) وجعلها مرجعاً أساسياً في الفكر الإسلامي وجزءاً لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية.

وقد ترافق الانحدار السياسي والفكري مع انحدار في منظومة الاجتماع ودخول المنطقة في مرحلة حروب دائمة فيما بينها مع ضعف ملفت لسلطة الخلافة المركزية مما جعل المنطقة عرضة للغزو الخارجي (الصليبي والتتاري الخ) وقد تترجم ذلك على مستوى الاجتماع بانخفاض في عدد السكان لم يسبق له مثيلاً في تاريخ المنطقة التي تُعتبر مهد الحضارات (مثلاً بلاد الشام التي كان يبلغ سكانها 5 ملايين في العصرين الأموي والعباسي لكنها وصلت إلى أقل من مليون نسمة في نهاية القرن الثامن عشر أي بعد قرنين من الحكم العثماني). كل ذلك يفسر إلى حد ما ضعف مناعة المجتمعات العربية أمام الغزو الأوروبي الحديث، الذي بدأ مع حملة نابليون على مصر عام 1798.

كانت صدمة الحداثة الاستعمارية مجلجلة على كافة الصعد وقد تصدت لها نخب المنطقة وفق منظورات متعددة في تلاوينها وطريقة تقديم نفسها للجمهور، إلا أنه يمكن تصنيفها وفق ثلاث تيارات فكرية رئيسية: الأول هو تيار التراث والأصالة، أي “التيار السلفي” بالمعنى الواسع للكلمة وهو التيار الذي رفض الحداثة الغربية بالكامل واعتبرها متعارضة مع خصوصيتنا الدينية والثقافية والاجتماعية ثم ذهب إلى ماضينا السحيق المؤسطر سلفاً ليبحث عن أسباب تخلفنا والتي لخصها بابتعادنا عن تعاليم “الدين الحنيف” ليس في العبادات فحسب بل في الشريعة والاجتماع والتنظيم الاقتصادي والسياسي وهذا ما يتكثف بشعار “الإسلام هو الحل” الذي أصبح شعارا مُتبنى بشكل ضمني أو صريح من قبل كافة الحركات الإسلاموية في المنطقة. هذا التيار لم يتمكن (بسبب العجز الفكري أو بسبب النفاق السياسي) عن رؤية الغرب إلا على أنه مسيحي – صليبي فقام بعملية فصل تعسفي بين نتاج الغرب المادي وبين شجرة المعرفة (أي المناهج العلمية والأطر العملية) التي أنتجته وأفتى بأنه لا مانع من استيراد الأول بينما رفض الثاني بشكل قاطع.

التيار الثاني هي التيار الذي نادى بالتغريب حيث وجد في الغرب ضالته في الإجابة على كل الأسئلة والمشكلات التي تعاني منها المنطقة. وقد بقي هذا التيار محدود التأثير عموماً بسبب اغترابه أولاً عن مجتمعاته وبسبب سطحية أطروحاته وتعاليه عن محيطه ثانياً. أما التيار الثالث فهو التيار الانتقائي الذي حاول التوفيق بين الأصالة والمعاصرة ضمن صيغة تحاول الأخذ بأفضل ما في النموذجين. لكن تلفيقية هذا التيار وانتهازيته الفكرية والسياسية خاصة بعد أن مني بهزائم متكررة (البعث والناصرية هي أمثلة واضحة ولكن لسيت حصرية على هذا التيار) دفعت به إلى تبني مواقف أقرب إلى التيار السلفي الأصولي.

إن أهم ما يجمع هذه التيارات الثلاثة على اختلافها الكبير في الظاهر هو أصوليتها وتقليدها الميكانيكي لنماذج إلهامها : أي الماضي العربي الإسلامي والحاضر الأوروبي. وبالتالي اتسمت جميعها  بنمط التفكير السكوني الذي يعجز أصحابه عن التوفيق الإبداعي بين الوجود الموضوعي للحقيقة خارج الرأس وبين نسبية إدراكها من قبل العقل البشري. فيتم رفض فكرة نسبية الحقيقة وادعاء امتلاكها بالمطلق بالاستناد إلى نص ديني أو إيديولوجي يؤدي فيما بعد إلى استقالة العقل بالكامل عن أي فعل إبداعي أصيل. وأمام استبداد مُلّاك الحقيقة ينمو موقفٌ شعبيٌ نقيض في الظاهر لكن نتيجته واحدة وهو موقف رفض فكرة الحقيقة إذ لا يعلمها إلا الله فيستقيل العقل عن محاولة اكتشافها ويقود ذلك إلى اتهام العقل البشري بالعجز وهذا موقف الإسلامي الشعبي.

أحمد سعد الدين، دكتوراة اقتصاد زراعي، باحث سابق في جامعة فلورنس، حالياً خبير في منظمة الفاو.