أئمة مجددين من تاريخنا وحاضرنا

أول من دعا إلى المساواة التامّة بين الرجل والمرأة في الإسلام ثلاثة من أعظم فقهائه, وهم ابن حزم وابن حجر والقرطبي، الذين رأوا أن ولاية المرأة على نفسها مطلقة لا تختلف عن الرجل، وأنها لا تصد عن أي منزلة وقد تصل إلى النبوة كمريم بنت عمران وكأمّ موسى. وبنى على ذلك الدكتور محمد حبش دراسة تفصيلية توضح عدم تعارض قانون الأحوال المدنية الحديث الذي يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث مع مبادئ الإسلام ومقاصد الشرع. حبش مقرئ مشهور وتلميذ العلامة وهبة الزحيلي ودكتور في الشريعة والأديان.

وكان أول من اعترض على فكرة الإعجاز العلمي والطب النبوي وحكم الردّة, واحتجّ على الرجم ورفض أحكام الرقّ ونقاب المرأة وناقش جواز إمامتها وفرضية الحجاب, وأسقط شرط المحرم لسفر المرأة ورفض معاقبة المفطرين في رمضان ونفى عذاب القبر وتحفظ على النسخ في القرآن ورفض تلبّس الجن للإنسان ونفى شرط موافقة الولي على زواج الفتاة ونقد فكرة المصرفية الإسلامية ورفض حرمة الاختلاط، ودعا إلى الحرية والدولة المدنية هم مجموعة من المثقفين والمفكرين والعلماء من قلب الحالة الإسلامية كمحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين ومحمد أبو زهرة وعبد الوهاب المسيري ومحمد سيد طنطاوي ومحمد أبو القاسم حاج حمد وطه جابر العلواني ومحمد شحرور وفهمي جدعان ومحمد الأحمري ومحمد المسعري ومحمد المختار الشنقيطي وعدنان إبراهيم وطارق سويدان وجاسم سلطان ونهاد خنفر وغيرهم.

كان الشيخ علي عبد الرازق من أول من دعا إلى العلمانية في الإسلام، وهو شيخ أزهري مُعمم تبعته اتجاهات داخل المدرسة الفقهية التقليدية تبنّت مدنية الرسالة الإسلامية. ثمّ العالم الأزهري ومدققّ المخطوطات الكبير رضوان السيد, الذي كتب حول محورية الفصل بين الديني والشأن العامّ كما يسميهكشرط أساسي للتصحيح الحضاري.

وكان من أوائل الموافقين على زواج المسلمة من غير المسلم إذا حماها القانون من أن يجبرها زوجها على تغيير دينها أو دين أبنائها كما في الغربهو الدكتور الترابي, الفيلسوف الإسلامي وصاحب التفسير التوحيدي للقرآن وقائد أول حركة إسلامية وصلت إلى الحكم. ثم تبعه الدكتور يوسف القرضاوي ومجامع فقهية في أوروبا وشمال أميركا, أفتت بجواز استمرار زواج المسلمة من غير المسلم.

المهم أنّ هذه الأفكار النقدية للموروث الإسلامي ليست اكتشافات جديدة، هي قديمة وموجودة ومتداولة ومقبولة أحياناً كثيرة ما دامت داخل قوالب علمية تأصيلية جادة ورصينة ومحترمة, أو حتى مجرد أفكار نقدية وعناوين تحفيزية للعقل الجمعي المسلم.

بين التجديد الديني والخطاب السياسي لأنظمة قمعية معاصرة

المشكلة حين تصدر هذه الدعوات عن حاكم كالسيسي, يبحث عن شرعية لدى الجماهير تغطي التاريخ الانقلابي المقترن بحكمه، أو عن اتجاهات سياسية هي امتدادات للثورات المضادة أو الأنظمة السابقة كالسبسي في تونس، أو عن منصات لأنظمة وراثية كالعتيبة أو الراشد, تريد أن توجد صيغة جديدة لإسلام ليبرالي يساعدها في الحصول على مشروعية من غير الانتخاب الشعبي ويبرر دينياً القمع السياسي الذي تمارسه. هذه الدعوات ومن هذه الجهات بالتحديدلن تُقرأ أبداً إلا كتهديد للدين ذاته كقيمة عليا تقدسها الجماهير المسحوقة والمتضررة من هؤلاء. سيكون وقتها الجو ملائماً لإنتاج نسخ أكثر راديكالية من الدين بذريعة الدفاع عنه في مواجهة تهديد وجودي يترّبص به.

النقد المعرفي والفكري والفقهي عندما كان بقصد التجديد والتطوير والبحث عن إجابات حقيقية في داخل المجال الإسلامي أو حتى في أروقة أكاديمية غربية استشراقية، كان مفيداً سواء وافقناه أو اختلفنا معه. أنتج هذا النقد اجتهادات متقدمة على الصعيد السياسي أو الاجتماعي، وإن كانت غير كافية من وجهة نظر الكثيرين. إلا أن هذا التقدم سيتوقف ويتراجع للوراء, حينما يتم استدعاء بعض المسائل الخلافية بغرض إشغال الشعوب المضطربة والمأزومة بفعل الانسدادات السياسية أو للمماحكات الأيديولوجية كما في حالة اليسار العربي فيما بعد حداثته, حين ترك مشاكل الاستبداد السياسي والعدالة الاجتماعية التي أقام دكاكينه الحزبية من أجلها، واشتغل في الإصلاح الديني والتجديد الإسلامي كحالة من المعارضة للإخوان المسلمين.

تجد حينها, أن جمهور محاضرة لعالم إسلامي مثل الدكتور زغلول النجار أغلبه من أنصار هذا اليسار, وهو حاضر فقط للتصيد والمواجهة وتسجيل إحساس بالانتصار على ما يسميه الظلام والرجعية. هذه الصدامات أضرت بفكرة النقد المعرفي للتراث ودفعت الناس بالرجوع للوراء, ورفض فكرة التصويب والإصلاح من أساسها, ومن ثم التقوقع في داخل الموروث التقليدي على علاته كحالة من الدفاع عن الدين في ظنهم؛ لأن العقل الجمعي المنحاز للمظلوم لن يقبل دعوة من السيسي لحقوق امرأة مظلومة بينما هو ينتهك حقوق الآلاف في سجونه.

الغريب أن هؤلاء ممن يدعون إلى تجديد الخطاب والفقه الديني هُم مَن يقف إلى جانب أنظمة مستبدة وراثية مهترئة. بالنسبة لهؤلاء, الموروث الديني يحتاج إلى تجديد، أمّا الموروث السياسي الذي يجعل الشأن العام ملكاً حصرياً لعائلة أو مجموعة متفردة مستبدة فلا إشكال لهم معه! هنا يكمن الإشكال. النفاق القيمي والأخلاقي, والاشتغال فيما لا يكلّف صاحبه موقفا ًسياسيا ً، المساندون للأنظمة القمعية المبايعون للملكيات الظلامية, وفقط يريدون تجديد الدين والانتفاضة على علمائه!

في النهاية ومهما حاول هؤلاء التصيد والاستخدام المصلحي الانتقائي للدين فإن طريقة التفكير للمجتمعات في العقد الأخير قد تغيرت. لقد اعتادت المجتمعات ذات الأغلبية الإسلامية تقبّل أن لكل حكم غير منطقي في الدين, حكمة إلهية ما!

أحكام بحاجة للتجديد بغض النظر عن أروقة السياسة

حكم الردة، تحريم الاختلاط، أحكام الطلاق، ضرب الزوجة، ضرب الأطفال الذين لا يلتزمون الصلاة، منع زواج المسلمة من غير مسلم كلها أحكام من الواضح منطقياً أنها بحاجة للتجديد. اعتاد المدافعون عن هذه الأحكام تداول الكثير من المسوغات التاريخية لأحداث في التاريخ الإسلامي، أحداث متعلقة بالسبي، بالقتل, بالفتوحات, وبالاغتيالات السياسية.

ولكن كل هذا يبدو هشّاً أمام ما جرفه علينا الربيع العربي من مواجهة مع الذات والآخر، وما خلفته داعش من جراح التطبيق الحرفي للنص أو التأويل السلفي للتراث.

إنه من غير الممكن تقديم مشروع حضاري للمجتمعات دون حل معضلات المرحلة السابقة، ولا يمكن القفزفوق بديهيات العدالة في التفكير المنطقي باسم حكمة دينية ما“, لا ندرك منها إلا نتائجها, من مشاكل وأزمات اجتماعية على أرض الواقع, أو تشويه لسمعة الإسلام في العُرف العالمي. فما الفائدة من حكمة لا يمكن اعتمادها إلا كإجابة لسؤال مطروح في حصة الدين في المدارس!

هناك تغيير يحدث, والمواضيع التي لم تكن لتُراجع في عُرف جمهور التيارات الإسلامية لفترة طويلة, بدأت تخضع للتدوين من قِبل جمهور شبابي واسع. نعم لن نخدع أنفسنا ونعتقد أن التغير بسيط وناجز؛ لأن اللعبة السياسية قائمة, وما زالت الأيديولوجيات هي التي تحكم توزيع النقاط وتحديد الشكل النهائي لما يُمكن أن يُقال أو يُكتب رسميا ً. لكن ومن غير شك, هناك تغيير يحدث, ولن تعود الأمور والعقول كما كانت سابقاً، ولكن ليس على حساب حرية وحقوق الشعوب المنتفضة.

محمد عدنان الكيلاني, بتصرف

                                                                                                                                                       

By taher