برغم انّ الحركات الاحتجاجية التي اندلعت في سياق ثورات الربيع العربي قد أثرت في مختلف المجتمعات الخليجية، إلا انّ حالة التأهب لدى الحكام من أجل اتخاذ قرارات جريئة تتناسب مع تطلعات شعوبها بالمشاركة السياسية الفعالة لم تترجم عمليّا على أرض الواقع بسبب غياب استراتيجيات شاملة و متكاملة بين مختلف المجالات للتطوّر السياسي. فقد أحدث صانع القرار في هذه الدول مبادرات استباقية، تمثّلت في منح مالية للعائلات و دعم الكثير من المواد الغذائية، لمواجهة محاولات استنساخ الحراك الغاضب في كلّ من تونس، مصر أو ليبيا، الذي ظهرت بعض معالمه في مظاهرات شعبية متقاطعة -باستثناء البحرين – و دعوات متفرقة لإجراء تغييرات إصلاحية في الأنظمة السياسية الخليجية. و لذلك، لازالت اغلب دول الخليج تواجه تحديّات بناء الدولة الحديثة على أساس مقوّمات سيادة القانون و تفعيل دور المجتمع المدني و كذلك استئصال الفساد الذي من شانه أن يحقق التنمية و السلم الاجتماعي داخل مجتمعاتها.

و يمكن تصنيف معرقلات التطوّر السياسي نحو الدولة الحديثة الى ثلاث مسائل أساسية.

أولا، أغلب دول الخليج لم يكتمل بناء الدولة ‘الحديثة’ فيها، في ظلّ ضعف المؤسسات البرلمانية أو تهميش القوانين الدستورية بسبب تواصل مفهوم ‘شخصنة’ صناعة القرار. و بالتالي، لا يمكن لنظام سياسي مبني على ‘تقديس’ الشخص الحاكم أو المتنفذّ في السياسة أو مجال المال و الأعمال إرساء تقاليد دولة مؤسسات من شانها أن تحقق التوازن و العدالة داخل المجتمع. ندرك في هذه النقطة أنّ غياب ثقافة ‘المأسسة’ في الحياة السياسية في دول الخليج يتمظهر في تعيين مسئولين غير أكفاء، في حين أنّ معادلة بناء الدولة القوية و القادرة على الاستمرار تستوجب إعطاء قيمة للمؤسسات و تفعيل القوانين بعيدا عن المصالح الشخصية الضيقة (قرابة/محسوبية/الوساطة…).

ثانيا، لا زالت دول الخليج تعاني من إضعاف لدور المجتمع الأهلي و تهميش لأدوار الحزب السياسي أو النقابات أو الصحافة برغم من أنّ المعطى القبلي بدأ يتقلص وازدادت نسبة التعلّم و قدرة المواطن على الانخراط بحسّ سياسي واعي في إدارة الصالح العام. و لكن عدم وجود إطار قانوني ودعم جديّ من الحكومات الخليجية يعرقل تفعيل الدور المهم للمجتمع الأهلي في بناء التطوّر السياسي رغم توّفر الكفاءات والموارد البشرية والمادية، بالإضافة الى المبادرات التي من شانها أن تساهم في انخراط فعّال للمواطن داخل الشأن العام. وفي ذات السياق يجب على الحكومات الخليجية أن تدعم حيويّة المجتمع الأهلي باعتباره ضامنا لفعالية و شفافية مشاريع بناء الدولة و مهمته الأساسية تقريب الدولة الى مصالح الناس وهمومهم الحقيقية بعيدا عن تمركز السلطة في أيدي أشخاص متنفذّة. و بالتالي، فتوّجه الدولة نحو تمكين و تقوية مختلف الفاعلين في المجتمع المدني يضفي حيوية داخل المجتمع و يزيد ثقة المواطن في صناع القرار.

أما ثالثا، تعتبر مسالة الفساد معضلة حقيقية وروتينية تعطّل التطوّر السياسي للمجتمع الخليجي الذي يرتبط لزاما بنقطة تهميش القانون و تضخيم دور الشخص المتنفد، إلى جانب وفرة المال وتشبّع المجتمع بثقافة استسهال ‘الخروج عن القانون’ كبيئة مهيأة لانتشار مختلف مظاهر الفساد، رغم إقرار هيئات مكافحة الفساد و الرشوة. و لكن مسألة تفعيل عمل الهيئات و المساءلة القانونية يتواجه مع غياب بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية رافضة للفساد ممّا يعمّق صعوبة استئصاله ومحاربته بسنّ تشريعات عقابية، خاصة وإنه قد انغرس في الوعي الجمعي وصار ثقافة مشتركة ومستساغة داخل المجتمع.

و مما لا شك فيه انه لا يمكن تناسي وضعية المرأة الخليجية التي يغلب عليها التهميش أو الانسحاب الإرادي من المشاركة السياسية بالرغم من نسبة التعلّم المرتفعة والكفاءات الجامعية، ممّا يؤثر سلبيا على تطوّر ثقافة الانخراط المجتمعي ويعطل مسار بناء الدولة الحديثة. لازالت المرأة الخليجية تواجه وتعايش مخالفات النمط الاجتماعي الذكوري كمثيلاتها في أغلب الدول العربية، حيث إنّ المشاركة السياسية أو المجتمعية للمرأة تصطدم لزاما بتقاليد وأعراف اجتماعية ودينية تعيق مبادراتها وتهمّش كفاءاتها في إدارة الشأن العام. ويجدر بالذكر، أنّ مشاركة المرأة وتمكينها من الفضاء العام لا يلقى معارضة من حكام دول الخليج، بل إنّ الإشكال الحقيقي يتمثّل في عدم توّفر الأرضية التشريعية اللازمة والمشجعة للمرأة، بالإضافة الى عوامل سياسية وثقافية واجتماعية تساهم في ‘عزوف’ المرأة وقلّة الوعي بأهمية دورها في بناء الدولة. وهنا، يمكن إن نعتبر تغييب المرأة عن المشاركة السياسية المكثفة والفعالية تعيق بناء الدولة في الخليج و يقلل من أهمية الانجازات الاقتصادية أو التعليمية أو الاجتماعية.

لقد عرضنا المسائل الثلاثة الجوهرية التي من شانها أن تعرقل تطور المشاركة السياسية في الكثير من دول الخليج،إالى جانب إهمال دور نصف المجتمع ‘المرأة’. و على خلفية ما سبق، لا يمكن إنكار انشغال القيادات السياسية و التحفزّ الشعبي لمواجهة تحديات المرحلة الراهنة في المنطقة العربية بحيث تؤجل القضايا الداخلية لصالح مسائل الأمن القومي ومحاربة الإرهاب.
انشغلت الحكومات الخليجية بتداعيات الأزمات الإقليمية وتهديد التمدد الإيراني في ظلّ الفراغ الأمني في المنطقة. وانعكس هذا الانخراط المباشر في إدارة الصراعات (اليمن/ سوريا..) على ازدياد حدّة المزايدات المفتعلة داخل المجتمع الخليجي حول قضايا الانتماء الطائفي الذي من شانه أن يهدد تفكك الوحدة الوطنية و يزيد السخط الاجتماعي، على اثر تداعيات الصراع الدموي في سوريا وما خلفته موجة ثورات الربيع العربي من فوضى الاقتتال والإرهاب داخل العديد من دول الجوار. وبالتالي، أصبح من المهمّ أن يلتفت صناع القرار والنخبة في المجتمع الخليجي إلى الملفات الداخلية ذات الأولوية مثل التنمية وبناء مؤسسات الدولة الحديثة وتحقيق الوحدة الوطنية و ضمان الاستقرار المجتمعي والتعايش السلمي بين السنة والشيعة بعيدا عن مغامرات التدخل العلني أو الخفيّ في أجندات الصراعات الإقليمية. ولكن، تعتبر دولة الكويت متقدمة أشواطا عديدة في مجال تفعيل المجتمع المدني و السماح للمنظمات و الهيئات بالانخراط الفعليّ في الشأن العام، استطاعت النخبة الكويتية ضمان مكاسب حرية الصحافة، و مناقشات مفتوحة في الديوانيات بالإضافة الى تعددية الهيئات السياسية و التمثليّة القوية للمعارضة السياسية داخل البرلمان.

طغت السياسات الخارجية لدول الخليج في المرحلة الراهنة وحالة انتظار سيناريو إنهاء الأزمة السورية على كلّ النقاشات أو مبادرات التغيير في الداخل، برغم من ازدياد الضغوط الداخلية الداعية لإحداث تطوّرا سياسيا و مطالبة قوى التغيير بالمزيد من الانفتاح والانخراط في المشاركة السياسية.

سهام الدريسي باحثة في الجامعة التونسية، مهتمة بالعلاقات الدولية و التحول الديمقراطي في دول العربية.