وافقت المملكة العربية السعودية على التخلي عن سيطرتها على مسجد الكبير في بركسل, في إشارة إلى جديتها في الحد من دعمها للمتشددين الإسلاميين.
ويأتي هذا القرار بعد الانتقادات البلجيكية المتزايدة من التعصب والتطرف المزعوم الذي تم نشره من قبل المسؤولين السعوديين للمسجد. كذلك يتزامن القرار مع الإصلاحات الاجتماعية في المملكة التي قدمها ولي العهد محمد بن سلمان، بما في ذلك رفع الحظر عن قيادة المرأة للعربات، وإعطاء المرأة حق حضور الفعاليات الرياضية التي يقوم بها الرجال, وإدخال أشكال ترفيه حديثة للمملكة.
وتفيد التقارير أن التخلي عن السيطرة على المسجد يأتي ضمن خطة سعودية للحد من دعم المساجد الأجنبية والمؤسسات الدينية والثقافية التي تحمل مسؤولية نشر التطرف. ومع تفاصيل قليلة عن الخطة، لا يزال من غير الواضح ما ينطوي عليه هذا التقييد ولا يزال من غير الواضح أيضاً ما هو الأثر الذي سيترتب عليه.
خلص تقرير نشرته كلية الدفاع الدنماركية الملكية وثلاثة مراكز بحثية باكستانية الشهر الماضي إلى أن المدارس الدينية في باكستان، وهي بؤر للتعليم الجهادي المسلح، لم تعد تعتمد على التمويل الأجنبي. وذكر التقرير أن التمويل الأجنبى يمثل سبعة فى المائة فقط من دخل هذه المدارس فى الباكستان.
وعلى غرار تعهد الأمير محمد في نوفمبر الماضي بإعادة السعودية الى شكل “معتدل” من الإسلام لم يتم تعريفه بالضبط، فإنه من السابق لأوانه معرفة ما يُقصد به من قرار بروكسل والإصلاحات الاجتماعية لما هو أبعد من محاولة تحسين صورة المملكة المشوهة, استعداداً لوجودٍ اقتصاديٍ واجتماعيٍ للمملكة في مرحلة ما بعد النفط في القرن الواحد والعشرين.
يبدو أن هذا القرار سيبدو للوهلة الأولى خطوة علاقات عامة في إطار الجهود المبذولة لتجنب العلاقات الشائكة مع بلجيكا والاتحاد الأوروبي نظراً أن مسجد بروكسل هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة, فهو واحد من عدد قليل نسبياً من المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية التي يمولها السعوديون و تديرها المملكة بشكل مباشر. فمعظم المؤسسات والتجمعات السياسية والأفراد في جميع أنحاء العالم الذين استفادوا من الحملة السعودية الدبلوماسية التي استمرت أربعة عقود -والتي تبلغ قيمتها 100 مليار دولار وهي أكبر حملة في التاريخ، و تهدف إلى التصدي للحماس الناتج عقب الثورة الإيرانية عام 1979- تعمل بشكل مستقل.
وبفعلها هذا، أخرجت المملكة العربية السعودية الجني من قمقمه, فهي لا تستطيع السيطرة عليه، وبذلك تؤدي أيضاً إلى تشكيل كينونة مستقلة خاصة به. إن البيئة المتشددة المستوحاة من الفكر السعودي قد أنتجت أيضاً مجموعات مثل تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية, مجموعات انقلبت اليوم ضد المملكة.
إن التخلي عن مسجد بروكسل يسمح للمملكة العربية السعودية بأن تقدم نفسها على أنها تنأى بنفسها عن جذورها المتشددة المتطرفة التي تعود إلى ترتيبات تقاسم السلطة في القرن الثامن عشر بين آل سعود ومحمد بن عبد الوهاب، وهو داعية يُعتبر أتباعه جوهر المؤسسة الدينية السعودية.
القرار الأخير، بالإضافة للإصلاحات الاجتماعية التي قدمها الأمير محمد، وخطط خفض التمويل للمتشددين, تبدو على أنها خطوات أقل من أن تعتبر تخلياً عن الخطوط الأمامية في المعركة ضد إيران, حيث لا يزال دعم المتطرفين والمسلحين عنوان اللعبة.
أعلنت السعودية الشهر الماضي أنها ستفتح مركزاً للتبشير السلفي في محافظة المهرة اليمنية على الحدود مع عُمان والمملكة. تعود جذور التدخل العسكري سيء الحظ للمملكة في اليمن ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران -وهي طائفة زيدية شيعية ذات جذور في منطقة متاخمة للمملكة- إلى توظيف السعودية للسلفية في مواجهة الجماعة في الثمانينيات و في أوائل هذا القرن.
أعلن مسلحون سعوديون فى العام الماضى أن رعايا سعوديين من قبائل البلوش في الجزيرة العربية كانوا يوجهون مبالغ كبيرة من الأموال الى مدارس المسلحين فى مقاطعة بالوشيستان الباكستانية على الحدود مع إيران. وتسيطر المدارس الإسلامية السنية المتطرفة التي يمولها السعوديون و يديرها مسلحون معادون للشيعة على المشهد التعليمي في المنطقة.
استمر تدفق الأموال، رغم أنه لم يتضح إذا ما كان المانحون السعوديون قد حصلوا على موافقة ضمنية من حكومة المملكة، في الوقت الذي تلتزم فيه السعودية بفكرة السعي إلى زعزعة استقرار إيران عن طريق إثارة الاضطرابات بين أقلياتها المتعددة، بما في ذلك البلوش.
يُذكر أن عالماً جهادياً يدير المدارس الجهادية في المثلث الحدودي بين بلوشستان وإيران وأفغانستان، كان قد وضع اسمه على قوائم الإرهاب وهو معروف عالميا من قبل وزارة الخزانة الأمريكية حيث كان جمع التبرعات في المملكة.
نشرت وسائل إعلامية جزائرية تقارير عن توجه جديد للمتشددين السنّة في شمال إفريقيا. توجهٌ مدعوم من السعودية, يوصف بأته أكثر هدوءً وبعيد عن السياسة, ولكنه في الوقت ذاته متعالٍ وضد التعددية السياسية. تذكر التقارير أن شيخاً سعودياً عيّن ثلاثة متشددين جزائريين سنّة كممثلين للحركة السلفية.
وقالت صحيفة الوطن الجزائرية المستقلة: “في الوقت الذي تحاول فيه المملكة العربية السعودية تعزيز صورة بلد يخلص نفسه من المتعصبين، ترسل إلى دول أخرى أولئك الأكثر راديكالية في مذهبها.”
جاء قرار التخلي عن السيطرة على مسجد بروكسل بعد تحقيق برلماني بلجيكي في هجوم العام الماضي على مطار زافنتيم الدولي في بروكسل ومحطة المترو في المدينة حيث قتل فيها 32 شخصاً. نصح التحقيق الحكومة بإلغاء عقد إيجار المسجد -حيث كان قد استأجره الملك البلجيكي بودوان عام 1969 بدون إيجار لمدة 99 عاماً لصالح المملكة العربية السعودية- على أساس أن التشدد المستوحى من السعودية يمكن أن يسهم بالمزيد من التطرف.
يقول ميشيل بريفوت من الشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية أن 95٪ من التعليم الإسلامية في بلجيكا قدّمه أئمة مدربون سعودياً. “هناك طلب كبير داخل المجتمعات الإسلامية للتعرف على دينهم، ولكن معظم الفرص مليئة بنوع سلفي محافظ جداً من الإسلام برعاية المملكة العربية السعودية.” وقال بريفوت: “أن دولاً إسلامية اخرى لم تتمكن من تقديم منح للطلبة على هذا المستوى.”
وأفادت السفارة الأمريكية في بروكسل عام 2007 ،في تسريب لها ضمن وثائق ويكيليكس، “هنالك غياب إسلامي ملحوظ في بلجيكا, في الحياة الثقافية كالأدب والعلوم الإنسانية والطبيعية, إهمال يصب لصالح ممارسة إسلامٍ متأثرٍ بالمحيط السلفي الذي يتخلله تفسيرات أكثر تطرفاً للدين.”
عملت المملكة العربية السعودية بجد في العام الماضي لتغيير التصورات عن معتقداتها المستوحاة من الإسلام.
أصر محمد بن عبد الكريم العيسى وزير العدل السعودي السابق والأمين العام للرابطة الإسلامية العالمية، وهي المجموعة التي تدير جامع بروكسل، و التي خدمت لمدة نصف قرن كوسيلة تمويل رئيسية للمتشددين المتطرفين، خلال زيارته للعاصمة البلجيكية أن الإسلام “لا يمكن مساواته والحكم عليه من خلال عدد قليل من الأحداث والهجمات التى تنفذ بسبب المصالح السياسية أو الجيو استراتيجية. الإسلام كدين يعلم الإنسانية والتسامح والاحترام المتبادل.”
وفي سابقة قادمة من بلد لطالما وزع نسخاً من بروتوكولات صهيون، وهي كراسات معادية للسامية من أوائل القرن العشرين، يقول العيسى في الشهر الماضي خلال اليوم الدولي لإحياء ذكرى المحرقة التي ارتكبتها النازية ضد اليهود “عظيم التعاطف مع ضحايا المحرقة، وهي حادثة هزت الإنسانية في جوهرها، وأنشأت حدثاً لا يمكن أن ينكره أو يهينه أي شخص عاقل أو محب للسلام.”
لا شك أن تعليقات العيسى تشير أيضا إلى علاقات أوثق بين السعودية وإسرائيل، فكلا البلدين يعارضان بشدة النفوذ الإيراني في المنطقة. ومع ذلك، فإن التصريحات تشكل تمزقاً جذرياً في المملكة العربية السعودية، حيث يصف علماء إسلاميون اليهود في كثير من الأحيان بأنهم “حثالة الجنس البشري، وفئران العالم، ومنتهكي الاتفاقات، وقتلة الأنبياء، وذرية القرود والخنازير.”
جيمس ام دورسي هو زميل بارز في مدرسة راجاراتنام للدراسات الدولية في جامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة، المدير المشارك لمعهد ثقافة المشاهير من جامعة فورتسبورغ ومؤلف مدونة، العالم المضطرب لكرة القدم في الشرق الأوسط، و كتابا مقبلا يحمل نفس العنوان
ترجمة: مصطفى قره حمد
المصدر الأصلي للمقالة: هنا
[starbox id=”none”]