ممارسة السياسة ضمن الإطار الديني من المرجح أن تتسبب بضعف الدولة، فبينما توظيف الشعارات الدينية في الخطاب السياسي يمكن له أن يعزز من فرص الوصول إلى نتائج ايجابية كتجنب الانفجارات الخطيرة من العنف في ظل الأنظمة الاستبدادية، لكنه ايضاً يمكن أن يعطي مساحة أوسع للنخب السياسية والدينية في استغلال الدين لمصالحهم الخاصة.
مثل هذه الأنماط من الاستغلال هي الأكثر شيوعاً في الشرق الأوسط، لا سيما أن الدين السائد هو الدين الإسلام، الذي يتمتع باللامركزية الوظيفية.
الاستغلال السياسي للإسلام يعني أن الإسلام يقدم أداة للوصول إلى هدف سياسي أو أنه متعلق بدور الإسلام كدين كأداة لغاية سياسية. مثلما تنظر الماركسية إلى الدولة والمنظمات المجتمعية على أنها أدوات مُستغلة من الطبقة الحاكمة أو الأفراد لتحقيق مكاسبهم الخاصة، يبدو أن الإسلام أصبح بمثابة أداة بيد النخب الحاكمة أو الأفراد لتحقيق مكاسبهم الخاصة.
يقوم الدين بلعب دور مميز في الكثير من القضايا، مما أذكر فقط ثلاثة قضايا في هذه المقال. أولاً قضية بناء ايديولوجية الدولة، مثل حالة انفصال الدولة الحديثة في باكستان عن الهند عام 1947 وقضية بناء ايديولوجية الدولة في الجمهورية التركية الحديثة منذ عام 1923. في ذلك الوقت كانت باكستان متعددة اللغات، والتقاليد، وغير متجانسة اجتماعياً.
[one_fourth_last padding=”0 10px 0 10px”][/one_fourth_last]
عملية توظيف الاسلام، كعنصر دمج، على الأقل خطابياً، كانت مختلطة مع الفكر الوطني في سلسلة من التسويات بين نخب الحداثة الفكرية والجماعات الدينية لإقامة الحدود بين باكستان الإسلامية والهند الهندوسية.
في تركيا، الدولة على وجه التحديد لم تخدم الإسلام، بل أن العكس هو الصحيح. بعد إنهيار السلطنة وعلمنة النظم القانونية والتعليمية، أوجدت الحكومة التركية ما سمي برئاسة الشؤون الدينية (Diyanet Işleri Bakanlɪğɪ ) في العام 1928، التي بموجبها بات الدين يُدار رسمياً عبر مؤسسات الدولة. احتكار الدولة للمارسات الدينية بات واضحا حيث أن أي تثقيف للأئمة أو تعاليم دينية أو وعظ توجب تشريعها من خلال القنوات الحكومية. وصولاً إلى عام 1941 حيث وزعت الإدارة المركزية لرئاسة الشؤون الدينية على جميع خطباء المساجد مضمون خطبة يوم الجمعة في كل أنحاء تركيا.
ثانياً، قضية توازن القوى وأزمة الدولة التي نراها في الدول الديكتاتورية، مثل الحالات التي نراها بين النخب السياسية الحاكمة والمؤسسات الدينية في مصر منذ العام 1920. على درجات متفاوتة، الملك فاروق، جمال عبد الناصر، محمد أنور السادات، محمد حسني مبارك، محمد مرسي وعبد الفتاح السيسي شكلوا تحالفاً بين الدولة والأزهر، أكبر جامع وجامعة في مصر. هذا التحالف نتج عنه ما يسمى “بالإسلام الرسمي” للدولة، الذي يمثل موقف الدولة من الدين وآلياته المتنوعة.
ثالثاً، حالة الدولة في أزمات العنف، كالحالة التي شهدناها في سوريا منذ عام 2011. الدين، تحديداً الإسلام غذى عمليات الحشد والاحتجاج والإقصاء. في هذه القضية، وتبعاً لانخراط الجماعات الدينية في المعارضة السياسية، يصبح الدين مساعداً للدولة للرد وإقصاء معارضيها. فالنظام سارع إلى وصف الإحتجاجات بأنها طائفية وادعى بأنه يحمي الأقليات وصورة الإسلام الصحيح. وكما أن النظام السوري وصف الاحتجاجات والمقاومة المسلحة لاحقا بمصتلحات دينية طائفية، وربطها بالجماعات الإسلامية المتشددة. بعض المعارضين في المقابل، اعتبروا أن كل العلويين والأقليات الأخرى مسؤوليين عن الفظائع التي ارتكبها النظام، مستأنفين بذلك ما يرونه حماية للشكل الصحيح للإسلام.
عمليات الإستغلال السياسي للإسلام يفترض أن لها عدة أشكال إلا أنها قد تكون غير واضحة وأحياناً متشابكة، ومع ذلك يمكننا التعرف على الفئات التالية:
علاقة الحاكم بعلماء الدين:
استغلال الدين يمكن أن يحدث بشكل تحالف بين النخب الحاكمة ورجال الدين. هذه العلاقة يمكن أن تحصل من خلال إكراه أو استدراج النخب الدينية من قبل الإنظمة الاستبدادية أو الحاكم. فالنخب الدينية تحصل على الحماية والإمتيازات، بينما في المقابل يحصل الحاكم على الدعم الديني والأخلاقي، اللذان من خلالهما يتمكن الحكام من تحصين وترسيخ موقف السلطة، وكسب المزيد من الشرعية والمصداقية.
النخب الدينية (باستخدام التعاليم والمرجعيات الدينية) يمكن أن تعمل كأداة للقضاء على المعارضين لهم وللحاكم من الدينيين والعلمانيين الآخرين. إنهم يساعدون النخبة الحاكمة، عن قصد أو بدون قصد في خلق بُنى معرفية تحدد هويتهم، وتحدد العملية السياسية ودور الحاكم حيث أنهم في الحقيقة في عملية بناء وإعادة بناء مستمرة.
علاقة علماء الدين بأتباعهم:
العلاقة بين النخب الدينية واتباعهم تشكل الخطوة العملية الأولى للتآثير في المجتمع. هذا الشكل يساهم في تعبئة الجماهير.وقد ينتج عنه استغلالاً للمعتقدات الصادقة جداً عند الناس، كما أنه يُمكن أن يؤدي إلى آثار ايجابية كبناء السلام وتجنب الأوضاع الخطيرة والسقوط في العنف.
الاستخدام المستقل للمراجع الدينية:
جميع أبعاد السلطة في الدولة يمكن أن تُمارس هذا الشكل على قدم المساواة، وميزته الرئيسية هي في استخدام المصطلحات الدينية في التواصل مع الآخرين. الحكام والشخصيات الدينية والأحزاب السياسية وشبكة العلاقات في الدولة والجماعات العلمانية وغير العلمانية، والشعب إلخ. جميعها يمكن ان تندرج تحت هذا الشكل باستخدام التعابير الدينية لادعاء القرب من النبي محمد والقرآن. هذه العلاقة مع النبي وعاداته تعمل على تقرير أصالة وشرعية ومصداقية أفعال وكلمات الأشخاص.
هذا النموذج هو الأكثر تعقيداً، فكما يمكن استخدامه في الحياة الخاصة للأشخاص، يمكن استخدامه أيضا في المجالات العامة. هذا الشكل من توظيف المراجع الدينية يمكن أن يثير قضية إخلاص الأشخاص عند إستخدامهم للدين. هذا الشكل قد يبدو استغلالاً سياسياً للدين لأن الهدف النهائي سياسي أو ذو تأثير سياسي.
ولكن في الواقع، هو إيمان صادق. هذا النوع من استخدام الدين مختلف عن تلك التي تستغل الدين مع العلم المسبق بذلك. على كل حال، فإن الأثر النهائي لكلا السلوكان متعمداً أو غير متعمد–هو سياسي أو مرتبط باثر سياسي وهما يساهمان في لعبة المزاودات السياسية بين المعارضات الفاعلة في الدولة.
مع ذلك، وبناء على الأثر النهائي لعمليات المنافسة السياسية هذه، استخدام الدين بشكل مقصودة ( أن يكون المستخدم واعياً بإن الفعل أو السلوك هو استغلال للدين ) أو استخدام الدين بشكل غير المقصودة ( أن يكون المستخدم غير واعي بأن الفعل أو السلوك هو استغلال للدين )، فهي أشكال من الإستغلال الديني للإسلام. فالأثر النهائي متطابق وكلاهما يساهمان في بناء الهياكل المعرفية للواقع الذي يعيش ويتطور فيه جميع اللاعبين السياسيين.
دفع الدين إلى نطاق الحياة السياسية يضع نظام المعتقدات على المحك. فبينما الدين ذو طبيعة عقائدية، السياسية تقوم على المساومة. من جهة أخرى، إذا تم تصعيد الإستخدام الديني في المجال السياسي، فإن الفهم العقائدي للبنى السياسية المساومة يرتفع. هذا بالتالي يمكن أن يؤدي إلى عملية إحتدام سياسية رديئة ومحفوفة بمخاطر الانسداد السياسي. من جهة أخرى، السياسة قد تدمر الدين من خلال المساومة، تقديم التنازلات وفرض تفسيرات دينية مختلفة على المجتمع. الدين والسياسة يشكلان ثنائية متنافرة، إلا انهما يساعدان النخب السياسية والدينية في الشرق الأوسط من خلق والحفاظ على بنى تضمن بقاءهم.