تبقى الحروب الإعلامية أو كما يمكن تسميتها بـ “حروب تشويه العقول” هي الأخطر على المنظومة الأخلاقية في المجتمع لا سيما عندما يفتقد المتلقي لمصادر أخرى محايدة أو موضوعية للمعلومات، فمعظم الدول العربية ذات الغالبية المسلمة تقبع تحت خط الفقر وتعاني شعوبها نقصاً في الرعاية التعليمية والصحية، ومع ذلك نجد العديد من رجال الدين والإعلاميين، الذين يتبوأون أهم المواقع والمنابر الإعلامية، بدلاً من انتقاد هذا الواقع السيء يعملون على التحريض الطائفي ونشر الكراهية. فيضخون من خلال مواقعهم الفكر المتطرف خدمةً لمصالح السلطة الحاكمة والذي يغذي الارهاب بشكل ما، فيفقد بعض المتلقين، لا سيما هؤلاء المحبطين الغاضبين، قدرتهم على اتخاذ موقف مؤيد أو معارض للأحداث، تماماً كالمواقف من هجمات باريس مؤخراً ومن قبلها في بيروت وبغداد وأنقرة ودمشق، وحتى أن بعضهم يؤيد هذه الهجمات ويقدم لها التبرير. في هذا الواقع يتحول الجهل إلى مصدر رئيسي لتوفير الانتحاريين أو القتلة الذين تفوز بهم الجماعات الإرهابية وتستثمر أرواحهم في حروبها حول العالم.
[one_fourth_last padding=”0 10px 0 10px”][/one_fourth_last]يتداول معظم الناس في المجتمعات العربية الخبر بصيغة ( قالوا وسمعت أو رأيت) دون التدقيق في مصدر المعلومات، ومع سيطرة وسائل الإعلام السلطوية التجارية على الفضاء الإعلامي وضعف وسائل الإعلام المستقلة والموضوعية، يتحول المتلقي في العالم العربي إلى مجرد رقم دون أي قيمة إنسانية. فسياسات معظم المحطات الإعلامية في العالم العربي تتبع الجهة الممولة، كالجزيرة والعربية والجديد والمنار وقناة العالم …. ألخ، أو أنها تتبع نهج النظام الحاكم وجهازه الأمني كالمحطات الرسمية. تعتمد بعض هذه المحطات وسائل تحريف الخبر أو الامتناع عن تقديم كامل القصة الإعلامية وأحياناً تصل إلى حد التزوير أو اختلاق أخبار غير موجودة في الواقع. كل ذلك على اعتبار أن الإعلام يشكل إحدى أدوات الحرب الحديثة وأهم وسائل السيطرة على الجمهور، فترويجها أو مهاجمتها لقضية معينة لا يجري بشكل عشوائي بل بطريقة ممنهجة ولغايات محددة.
معظم حروب العالم القديم والحديث اندلعت لأسباب ترتبط بالسلطة أو بالتوسع و الأطماع الاقتصادية، لكن لا يمكن التصريح بذلك لأن هناك من سيعترض، لذلك، كان لا بد من شرعنة الحروب، ولتحقيق الأمر كان لا بد أيضاً من خلق مجموعة من القيم والأخلاق التي تهدف أولاً إلى تجميل وتبرير الحرب رغم قباحتها، وثانياً تأمين وقود الحرب والذي هو دائماً عامة الناس، ولأن خلق هذه القيام لا يكفي بحد ذاتها ولا بد من نشرها وقبول الناس لها، تم استخدام وسائل الإعلام لبث الخطاب السياسي التعبوي القائم على فكرة حماية مصالح الوطن والأمن (الخوف)، أو الخطاب الديني القائم على فكرة حماية المقدسات أو واجب نشر الفكر الديني أو نشر الخوف الطائفي (كراهية الآخر)، وينشر كل ذلك على شاشات التلفزيون الرسمية أو المحطات الفضائية الخاصة الحاضرة دائماً في كل منزل. وكنتيجة للتنحار الإعلامي المستعر في العالم العربي يمكننا ملاحظة أبرز أشكال التناقضات في المجتمع الواحد كالعراق مثلاً عندما نطرح قضية موت الجنود أو المقاتلين في الحرب الدائرة هناك، فبينما يراه البعض شهيداً يراه الآخرون مجرماً قاتلاً يستحق الموت !!! بينما لا تعدو القصة أكثر من المتاجرة بدماء الناس.
وبسبب تعقيد الآمر سنتناول الحرب السورية كمثال، فالنظام القائم هو بدون شك نظام سلطوي ديكتاتوري استغلالي. وعلى الرغم من خطابه الإعلامي المرتكز على فكرة القومية العربية ودعواته العلمانية الاشتراكية، إلا أنه بنى تحالفات قوية واستراتيجية مع حركات دينية تتعارض مع مرتكزات خطابه الإعلامي. فتحالف مع حركة حماس (الاخوانية، السنية) في فلسطين، ومع حزب الله (الشيعي المدعوم إيرانياً) في لبنان، وفي العراق مع حركات المقاومة (السنية المتشددة) ضد الاحتلال الأمريكي، وتمكن من بناء تحالف قوي مع إيران (الشيعية الفارسية) ومع روسيا (الشيوعية سابقاً والقومية الطائفية الآن)، وفي سوريا وعلى الرغم من فساد النظام واستغلاله وسلبه لمقدرات البلاد الاقتصادية تمكن من بناء التحالف مع الطائفة العلوية (الفقيرة المعدمة) التي ينحدر منها رئيس السلطة الحاكمة. التناقض يصبح أوضح في هذا المثال، عند النظر إلى حلفاء النظام السوري بشكل منفصل عنه ومقارنة كل منهم مع الآخر، فبينما كان في وقت ما سابقاً حليفاً لروسيا “الشيوعية” كان حليفاً في الوقت ذاته لإيران “الإسلامية المتشددة”، ورغم تحالفه مع الحركات الدينية إلا أنه ظل يحارب حركة الأخوان المسلمين في سوريا.
ورغم وضوح هذه التناقاضات والتي لا تترك مجالاً للشك في طبيعة هذا النظام وقيمه وأهدافه، إلا أننا سنجد أن هناك الملايين من الناس الذين يدافعون عنه ليس عبر الخطاب الفكري فحسب، وإنما بأجسادهم. لقد تمكن النظام عبر آلته الإعلامية من السيطرة على جمهوره وتدجينه من خلال استغلال مشاعر الخوف، حتى أصبح هذا الجمهور عاجزاً تماماً عن إجراء المحاكمات العقلية عندما يكون النقاش حول الآزمة السورية، بل أصبح هذا الجمهور لا يرى أي إشكالية أخلاقية تجاه المجازر أو استهداف الأماكن السكنية والمدنيين بمختلف أنواع الإسلحة بما فيها السلاح الكيماوي.
ويمكن بكل بساطة للمتابع أن يلاحظ كيف طغى الخطاب الطائفي الذي يخدم مصالح معظم الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع السوري. فبدأ بشعارات طائفية شيعية طرحتها إيران تحت عنوان “حماية المقدسات” مروراً بشعارات استهداف الأغلبية السنية والدعوة إلى الجهاد ووصولاً إلى أخرها شعار “الحرب المقدسة” كما تدعي الآلة الإعلامية الروسية اليوم، كل ذلك ليس للقضاء على الإرهاب أو حماية الناس وكرامتهم ومصالحهم وإنما لتحريكهم نحو الهدف الذي تريده السلطة أو الجهة الممولة لوسائل الإعلام وضمان استمرار توفر العنصر البشري اللازم لاستمرار القدرة على المنازلة في هذه الحرب المحرقة.
تزداد خطورة ما نطرحه في هذا المقال عندما نتناوله على صعيد المواقع الإلكترونية أو مواقع التواصل الإجتماعي، والتي يتخذها معظمنا مصدراً للمعلومات، لا سيما مع انتشار الهواتف الذكية وحالة التواصل الدائم عبر شبكة الانترنيت التي أصبحت بمتناول أي إنسان وفي أي مكان من هذا العالم. فمما لا شك به أن استخدام الانترنت يساعد بشكل كبير في نشر الكراهية والشائعة أو المعلومات المظللة أو الأفكار الطائفية أو العنصرية، حيث يتم بكل بساطة نشر الأخبار ومقاطع الفيديو والصور الدموية والشديدة الأذى النفسي دون أي مسؤولية قانونية أو أخلاقية، ثم يجري نسخ ونشر الخبر أو الصورة أو الفيديو من قبل أي متلقي دون الحاجة إلى وجود جهاز أو مؤسسة إعلامية، وذلك لثقة هذا المتلقي بمصداقية مصدر المعلومة، لا سيما عندما يكون هذا المتلقي ذاته مستسلماً لمشاعر الخوف أو لدوافع الانتقام. هذه المشاعر التي عمل طويلاً على زرعها فيه ذات المصدر الذي يتلقى منه معلوماته، وهذا المصدر غالباً ما يكون مرجعية دينية أو جهة سياسية أوجهازاً أمنياً، غير معنية بالمصالح الحقيقية لهذا المتلقي الضحية.
الأمثلة التي يمكن طرحها هنا والتي تبين مدى التأثير السلبي للإعلام من خلال المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الإلكتروني كثيرة جداً، ويمكن لنا أن نأخذ من أياً من الصراعات والحروب المندلعة في العالم العربي مثالاً غنياً مستقلاً وكافياً لإدراك خطورة ما نتحدث عنه، إلا أننا سنطرح هنا فقط مثال قصة الطائرة الروسية المدنية التي انفجرت فوق صحراء سيناء في مصر مؤخراً، فقد اعترف تنظيم الدولة الإسلامية في ولاية سيناء بعملية اسقاطها بصاروخ محمول على الكتف، وانتشر الخبر بسرعة كبيرة كما ينتشر النار في الهشيم، بينما لم يكلف نفسه أياً ممن روجوا للخبر على مواقع التواصل الاجتماعي في طرح التساؤل التالي: إن أحدث أنواع الصواريخ المحمولة لا يصل مداها إلى أكثر من 8000 متر، وهذا النوع من الصواريخ غير موجود إلا لدى الجيش الأمريكي ومايزال قيد التجربة، بينما كانت الطائرة المستهدفة تحلق على ارتفاع 30 ألف قدم أي أكثر من 9000 متر!!!.
معظم حروب العالم القديم والحديث اندلعت لأسباب ترتبط بالسلطة أو بالتوسع و الأطماع الاقتصادية، لكن لا يمكن التصريح بذلك لأن هناك من سيعترض، لذلك، كان لا بد من شرعنة الحروب، ولتحقيق الأمر كان لا بد أيضاً من خلق مجموعة من القيم والأخلاق التي تهدف أولاً إلى تجميل وتبرير الحرب رغم قباحتها، وثانياً تأمين وقود الحرب والذي هو دائماً عامة الناس
[starbox id=”none”]