يصوم المسلمون شهراً كل عام ليشعروا بالفقير حسب تعبير أغلب المرجعيات الدينية الإسلامية، مع ذلك ينتشر الفقر في البلاد ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط. لا يمكن وصف حالة الفقر كحالة شرق أوسطية، بل من الأدق لفت النظر إلى الفروقات المعيشية بين بلدان الشرق الأوسط, حيث يصل متوسط دخل الفرد السنوي 129 ألف دولار أمريكي في قطر و70 ألف دولار أمريكي في الكويت, بينما يعيش الفرد على 2900 دولار أمريكي و 2500 دولار أمريكي سنوياً في كل من سوريا واليمن على الترتيب. أما الصيام, فقد أصبح في كثير من البلاد الإسلامية مهرجان للطعام والدراما.
بعيداً عن المشاعر الغير مباشرة بدعم الفقير من خلال الشعور بألمه، فرضت الخلافة الإسلامية بمختلف أصولها التاريخية زكاةً على المسلم وجزية على غير المسلم (نظرياً)، وكان عليها أن توفر نظام تكافل اجتماعي يعطي الفقير بعد أن الاخذ من الميسور. ضمن هذا النظام يدفع المسلمون في نهاية شهر رمضان “زكاة الفطر” لتتحول لخزينة الدولة وتوزع على الفقراء كذلك؛ حالها كحال زكاة المال. هذا الكلام نظري وعلى مدار الأربعة عشر قرناً من حكم الخلافة المتعددة كانت الحروب، بالغالب، تمتص مدخرات الخزينة كحال غالب الإمبراطوريات الدائمة الرغبة بالتوسع، وتترك نسب مختلفة من الفقر داخل الامبراطورية.
الدولة الإسلامية انتهت منذ مائة عام تقريباً، وورثتها دول حديثة تأخذ ضريبة من جميع المواطنين على غرار التشريع الحديث في الدول الأوروبية. فقط في ست دول ذات أغلبية مسلمة يتم جمع الزكاة وفق قوانين تسنها الدولة، وهي (ماليزيا، باكستان، السعودية، السودان, اليمن, ليبيا). أما بقية الدول الشرق أوسطية، فيتم التعامل مع الزكاة على أنها حرية دينية، يؤديها أصحابها طوعاً.
يحول الإسلاميون أموال زكاة المسلمين لجمعيات مدنية إسلامية لخدمة الفقراء. تكاد تكون هذه المؤسسات الدينية (مسيحية وإسلامية) المتنفس الأخير للفقراء في الدول المسلمة الاشتراكية التي تصرف جل ميزانتها على التسليح. المشكلة هنا في الجمعيات الدينية ذات الروح الوطنية الضعيفة، هو خلق مؤسسات رديفة للدولة. و بما أن الدولة لا تؤدي مهامها كما يوجب العقد الاجتماعي المبرم في الدستور، فإن هذا الخلق للمؤسسات الرديفة يبدو جيداً ومحموداً آنياً، ولكن لا يعني أنه الحالة الوطنية المثلى في المجتمعات.
دولياً, يعتقد المسلمون في الدول ذات الغالبية المسلمة أنهم وحدة سياسية دينية. يتجلى هذا في نظام الدعاء على المنابر وفي الصلوات التي غالباً ما تشمل المسلمين “جميع المسلمين”و “أمة المسلمين” وقضاياهم وأزماتهم الدولية من أفغانستان للصومال مروراً بالبلقان وسوريا وفلسطين. الواقع أن المسلمين دول وطنية منذ حوالي القرن من الزمن, وعدم الاعتراف بالواقع لا يعني أنه يختفي من تلقاء نفسه, تخيل عاملاً سوريأ في مطار جدة يصرخ بالموظفين أنه وموظفي المطار السعوديين “أمة واحدة” و “أنهم أخوة”, هل سيدخل هذا العامل للسعودية من غير فيزا وكفيل؟
لو كان المسلمون وحدة دينية, هل كان ليتشرد كثير من المواطنين السوريين في تركيا ولبنان والأردن والعراق ذات الأغلبية المسلمة؟ في السعودية مشعر منى, يتسع لمئات الآلاف, إن لم يكن أكثر من مليون من الحجيج ويتم استخدامه عدة أيام في السنة، وهو فارغ الآن. هل يعقل أن يبات المسلمون السوريون في صحراء الأردن في الزعتري ومشعر منى فارغ ومخدم؟ المشكلة أن تجد من يؤمن بوحدة الأمة في مخيم الزعتري ذاته. نحن هنا أمام حالة غريبة من نوعها, حيث كلا الشعبين السعودي و المسلمين في سوريا يتصرفون على المستوى الفردي والجمعي ومستوى العلاقات الدولية على أنهم شعبين منفصلي الأهداف والمبادئ, ولكنهم في الوقت ذاته يرفضون الاعتراف بذلك خوفاً من خسارة “الأمة.”
في أوروبا مثلاً, نظام الحماية الاجتماعية حقق ما يربو إليه نظام الحماية الاجتماعية في الإسلام, ألا وهو القضاء على الفقر. من العبثي أن تذهب لفقير وتعطيه ما مقداره كيلوين من الطحين أو الرز قبل صلاة العيد في أوروبا. هذا الفقير له الحق في دول التكافل الاجتماعي أن يكون له منزل يؤويه ومساعدة شهرية تبتاع له ما يكفيه من الطعام لشهر كامل.
ماذا يفعل المسلمون بالزكاة وزكاة الفطر خصوصاً في البلاد المكتفية كدول الخليج أو تلك التي تحوي نظام تكافل اجتماعي موزون بدقة كالدول الأوروبية؟ المنطقي هو إرسال هذه الأموال لبلاد مسلمة فقيرة؟ في حال كان يفعل المسلمون ذلك, فإنه من الغريب إيجاد مسلمين فقراء في الشرق الأوسط مع وجود أموال الزكاة الطائلة في الخليج وشمال إفريقيا. هذا دليل منطقي أن أغنياء المسلمين في هذه الدول الغنية إما أنهم لا يدفعون الزكاة، أو أنهم يتعاملون معها بمبدأ وطني، أي أنهم ينفقونها على فقراء بلادهم، وفي الحالتين مبدأ الأمة غير موجود أو أن أموال الزكاة غير موجودة, أو أنها موجودة وبحاجة لقوننة على مستوى الدولة والمستوى الدولي.
إن أموال الزكاة الإسلامية, طوعية كانت أو حصة مقوننة من الدول الوطنية, بحاجة لقنوات توصلها بطريق دورية من الأغنياء في الدول ذات الأغلبية المسلمة الميسورة, لمثيلاتها التي تعاني من مشكلات اقتصادية. بهذه الحالة من الممكن الحديث عن “أمة إسلامية” تحمل من الحقوق للأفراد ما تطلبه منهم من الواجبات. حالياً, الموجود واقعاً هو مزيد من الفقر للفقراء ومزيد من الغنى للأغنياء ومزيد من التدين على قنوات تلفزيونية مملوكة من الأغنياء وموجهة للفقراء. في هذا السياق, يبات المسلمون جائعين في مخيمات اللجوء بينما ملاك أكبر أندية الدوري الإنكليزي الممتاز مسلمون بكل ما يحصلونه وينفقونه من الرياضة الأوروبية. هذه الأمة التي تدعي الوحدة شهر كاملاً كل عام، قسم منها يسبح بالمليارات وقسم منها يسبح بالوحل.
الغريب أن ترى فكراً لدى بعض من الصائمين في أوروبا, وهم يقولون علناً في نقاشاتهم عن الدول الأوروبية عبارات من مثيل:
“يعرفون عن الإسلام أكثر من المسلمين”
“طبقوا تعاليم ديننا ففلحوا”
“لا تنقصهم سوى الشهادة بالله وبرسول الله ليكونوا مسلمين.”
هذه التعليقات فيها شعور بالتفوق وبالتكبر يحمله بعض من المسلمين، وهو نسق يلاحظ أيضاً لدى المتدينين بالغالب من مختلف الديانات ، حول ماهية ترفع صاحب الحقيقة على “الضال.” ولا يخطر بالبال أنه ربما على المجتمعات المسلمة التركيز على الهدف التي سعت إليه التشاريع الإسلامية، ألا وهو القضاء على الفقر، بدلاً من التركيز بالطريقة القديمة لتحقيق هذا الهدف (نظام الزكاة والجزية). الأفكار تتطور بمبدأ الديالكتيك, ألا وهو أن نبني من الأفكار الموجودة أصلاً أفكار أجد و أنسب بما يتوافق مع معطيات الواقع. وطالما أن المجتمع الإسلامي عالق في عقلية وجوب تطبيق حرفية مبادئ التشريع لدى السلف الصالح (وهي رؤية وهابية للأمور مستوردة من السعودية) فلن يتم تحقيق أي هدف من أهداف التشاريع , وفي مقدمتها “القضاء على الفقر”؛ على الرغم من أن الخلفاء الأوائل نجحوا في القضاء على الفقر باستخدام التشريع الإسلامي ذاته الذي يفشل المجتمع المسلم عالمياً اليوم باستخدامه. إن الفشل ليس مؤامراتي, بل إنه وظيفي مجتمعي, متعلق بطريقة مباشرة بالرؤية المجتمعية للدين والعبادات والإمام و الحاكم، و لأسباب لها علاقة باختلاف معطيات الزمان والمكان. نجح هذا التشريع في زمان الخلفاء ولم ينجح في القرن الواحد والعشرين.
إن الواقع المعيشي اليوم في الدول ذات الغالبية المسلمة, يعطي مؤشرات منطقية لا تقبل الردع أننا مدفوعون بدافع البقاء نحو الحداثة, وأن مفهوم الأمة مفهوم يستغله الزعماء من أيام عبد الناصر وصولاً للخميني لاستغلال المشاعر الوطنية والدينية لدى الشعوب لتحقيق أهداف جيوستراتيجية أو للسيطرة على الجموع، وأن هذا المفهوم ليس أكثر من مشاعر. فبالواقع المسلمون, شاءوا أم أبوا, يركبون عجلة الحداثة. لذلك نحن أمام حلين, إما أن نطور المنظومة الدينية التي نعيشها, وبذلك نطور الخطاب الديني والهوية الدينية, والتعامل مع الغير, ونبتعد عن الحالة البعيدة عن الواقع التي لا تطعم فقيراً، أو الاستمرار في تطبيق التناقضات ذاتها عاماً بعد عام.
رمضان كريم, لكن الفقير لازال جائعا.
مصطفى قره حمد