الدراسات الإيرانية، كإختصاص في جامعات ألمانيا، هي بلورة لمفهوم نظريية المجال الثقافي الإيراني على مدى القرن الماضي. وللقيام بذلك، يُقسم المجال الثقافي الإيراني إلى حقلي الدراسات القديمة والدراسات الحديثة ويطلق على الدراسات اإيرانية في الألمانية مصطلح (Iranistik).
هناك أبعاد مختلفة في إطار الدراسات الإيرانية مثل السياسة والجغرافيا والثقافة واللغة والأساطير والشعر والأنثروبولوجيا، والصوفيون والعرق والجنس والاستعمار والدين. هذه الأبعاد، رغم تعددها، يمكن دراستها بشكل كلي أو بشكل منفصل.
التحول القومي: الدولة والمواطنين
يستخدم الباحثون مدى الحدود القومية كنهج للتوصل إلى الجذور الثقافية المشتركة، الأسطورة، الهجرة، واللغة العابرة للحدود. في النظام السياسي المعاصر للدول القومية، الدول التي لديها نفس المصالح، الأصول أو اللغة أو الدين وما إلى ذلك، هي دول مترابطة من خلال العديد من المنصات، خصوصاً في عصر الانترنت. مع وجهات النظر هذه، يمكن للمرء، على سبيل المثال، أن يتخطى الحدود السياسية والأقاليمية للاحتفال بليلة رأس السنة الجديدة الإيرانية “النوروز”. في المفهوم الثقافي الإيراني النوروز هو مناسبة تحدث مرة واحدة في العام في 21 مارس/ آذار لتذكير البشرية بصحوة الطبيعة.
الراغبون بالاحتفال بالمناسبات الثقافية من مواطني الدول القومية الأخرى ملزمون بطلب الحصول على تأشيرة لدخول البلاد المجاورة. حتى عيد النوروز، وهو ما يعني حرفياً يوم جديد، الذي يُحتفل به في إيران، وفي كل الدول المجاورة لإيران، وما وراءها. في السنوات الأخيرة، وضعت زمالة الدراسات الإيرانية، مثل كريستيان برومبيرغر، بالتعاون مع إيران ودول الجوار الأخرى مصطلح (Nowruzistan).
الاستعمار: سياسة دحر اللغة والثقافة
في عصر الحداثة – على الرغم من أننا تعلمنا أن نتحدث عن “عصر التنوير” – أصبحت دول في جنوب العالم وشرقه مناطق نائية. في حالة المجال الثقافي الإيراني، الحدود السياسية الحالية بُنيت نتيجة للصراع على السلطة. وكانت النتيجة أعراق مقسمة وتدهور العلاقات اللغوية والثقافية القديمة. لكن على الرغم من ذلك، لا ينبغي أن يدفن في غياهب النسيان أن كل حضارة عظيمة لها معالمها المميزة، تمر دائماً بمستويات مختلفة من التطور. إيران باعتبارها امبراطورية إقليمية تعتبر مثالاً على ذلك.
كيف يمكن لنا أن نتصور مثل هذا التطور؟ قامت العديد من العواصم السياسية وحتى الثقافية الإيرانية قبل نشوء فكرة الدولة القومية في الأماكن الحالية مثل أفغانستان، العراق، تركمانستان، أوزبكستان، طاجيكستان، باكستان أو القوقاز. وتمثل هذه الدول المجال الثقافي الإيراني. طوال القرن التاسع عشر، وفقاً لإريك هوبسباوم، فقدت إيران أكثر من 3000 كيلومتر من مساحتها بسبب تدخل القوى الاستعمارية.
اليوم، هناك الكثير من الناس الذي يقعون في حيرة من أمرهم عندما نتحدث عن مفهوم إيران الذي يرتبط مباشرة بالفارسية. وإلى جانب إيران، فإن اللغة الفارسية هي اللغة الرسمية في أفغانستان وطاجيكستان. من المهم أن نضع في اعتبارنا أن هناك الكثير من الناطقين باللغة الفارسية عرقياً، وأن الفارسية منتشرة في أوزبكستان وتركمانستان والعراق وباكستان وكازاخستان ودول الخليج العربي / الفارسي والهند والصين. يُطلق على الأشخاص المنحدرين من العرق الفارسي في آسيا الوسطى اسم “الطاجيك”، وهي وفقاً لبيرت فراغنار إنتماء عصبي أكثر من كونها تعريفاً ذاتياً. قبل العصر الاستعماري، إيران سمت نفسها (Mamalek-e Mahruse-ye Iran) والتي تعني “الولايات المتحدة الإيرانية”.
الهوية الثقافية والأمة-الدولة
بينما يتم تعريف مصطلح الدولة القومية من قبل الدولة ذاتها وفقاً لمفهومي الأمة والحدود، فمن المهم وضع ظاهرة الحدود في الوقت المعاصر تحت المجهر. إذا كان أحدنا مهتماً بتتبع الحدود القديمة في بداية ظهور البشرية على الأرض، سنجد أن الحدود حينها حددتها الأنهار والوديان والجبال أو الغابات.
الإمبراطوريات مثل الفارسية والرومانية والعثمانية كان لها حدود ولكنها لم تكن محددة تماماً مقارنة مع العصر الحديث. في المقابل، الحدود في هذا العصر معرفة سياسياً ومقننة في القانون الدولي. أصبح الفرد المعاصر مواطن وموضوع الدولة. ونتيجة لذلك، أضحت الحدود السياسية والوطنية أمراً ينظر إليه على أنها واقع الأمر.
علاوة على ذلك، الأن يتم توثيق المواطنين، وهذا الأمر سياسي أكثر منه ثقافي، ولهذا السبب كل شخص على وجه الأرض، تقريباً، لديه “بطاقة الهوية”. في هذه المرحلة، يبقى السؤال فيما إذا كانت بطاقة الهوية الوطنية تعبر عن اكتمال هوية المواطن أم لا؟ إذا أخذنا هذا الأمر بعين الاعتبار، فإنها مسألة وقت فقط، حتى تصبح الخطابات المعيارية والمناقشات المشحونة، مثل الأغلبية مقابل الأقلية، على مشارف الإندثار.
في إيران، وكذلك في المجال الثقافي الإيراني (أفغانستان وأذربيجان وطاجيكستان وأوزبكستان وباكستان، وما إلى ذلك)، هناك أعراق ولغات وأديان كانت تعيش جنباً إلى جنب منذ تاريخ نشوئها التاريخي الأول، ربما قبل 2500 إلى 5000 سنة مضت. الشخص من المجال الثقافي الإيراني عادةً ما يكون متعدد اللغات وله – على غرار الرجل أو المراة الغربيين صورة نمطية يميزها تعدد الهويات والميول.
بعد التعرف على هذه الحقائق، كيف يمكن أن نرسم الحدود بين الناس؟ هل من الممكن أن يكون سبب عدم انفصال شعوب المجال الثقافي الإيراني في السابق أنها شعوب تختلف كثيراً عن بعضها البعض، أو أن السبب هو وجود الكثير من القواسم المشتركة في وقتهم وبيئتهم أكثر من تلك المختلفة بينهم؟
للإجابة على هذا السؤال، لدينا العديد من الخيارات لننتقي من بينها الإجابة المناسبة. أحد تلك الخيارات الأولى في هذا السياق هو شكل الاستجابة لقوى الاستعمار وضعف القادة الإيرانيين السابقين طوال القرن التاسع عشر. في هذا الإطار، الإثنية مع ثقافتها شكلت الحق التفضيلي في تكوين الدولة – تدابير الحكم كانت أقل كذباً في الثقافة والعقلانية.
في هذه العملية الانتقالية تدير دولة المؤسسات، والمخطوطات، ووسائل الإعلام، واللغة، والصور، والتاريخ، والحياة اليومية. في إيران، أصبحت الفارسية اللغة الوطنية، وهي تمتلك تاريخاً عمره 1250 في مجال الشعر، الذي نشأ في ما هو معروف حالياً بالفارسية الطاجيكية. كان الشعراء في حالة اللغة الفارسية فلاسفة أكثر من كونهم شعراء، فقد عبروا عن أفكارهم العميقة من خلال خطوط شعرية.
في أفغانستان، اللغة الفارسية (الفارسية الدارية) تتنافس مع لغة الباشتون، اللغة القومية الثانية. ولكن، وفقاً لـ سنزيل ناوايد تبقى الفارسية لغة الإنتاج الثقافي (الشعر والأدب والصحافة) والمؤسسات الرسمية ووسائل الإعلام ولغة التواصل بين جميع الأثنيات المختلفة. وفي طاجيكستان، استعادة اللغة الفارسية وضعها السابق داخل المجتمع والدولة بعد الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي في عام 1991.
اللغة الفارسية في التاريخ
تعتبر اللغة مؤشراً مناسباً لفهم اختياري الشخصي للمجال الثقافي الإيراني. فقبل العصر الإسلامي، امتلكت الفارسية – جنباً إلى جنب مع اليونانية والسنسكريتية، اللاتينية الصينية – تاريخاً غير منقطع، هذا بالنسبة للمنحة الدراسية من برايان سبونر. لقد تطورت اللغة الفارسية عبر مسيرتها التي استمرت 13 قرناً، وهي تنقسم الى ثلاثة أنواع أدبية: الخراسانية، العراقية والهندية. الخرسانية وهو النوع الأدبي الذي يشمل الجزء الشرقي من إيران المعاصرة، أفغانستان، باكستان، طاجيكستان، أوزبكستان وتركمانستان. العراقي وهو النوع الأدبي الذي يضم الجزء الغربي من إيران المعاصرة وأذربيجان والعراق. الهندي الذي يتكون من الدول في شبه القارة الهندية، والتي تنقسم اليوم إلى باكستان والهند وبنغلاديش وكشمير. هذه الأنواع الثلاث لديها أيضاً تقسيمات فرعية، والتي هي خارج نطاق هذا المقال، ولكن كوننا نتابع هذا النقاش يجب أن نعلم، أن مؤسس الشعر الفارسي “رودكي” ينحدر مما نسميه اليوم طاجيكستان.
إضافةً إلى ذلك، تم استخدام اللغة الفارسية في الإمبراطورية العثمانية في القضايا الثقافية وإجراءات المحاكم. في السياق نفسه، كانت الفارسية أداة لمعالجة الشؤون العسكرية والدينية – كل الكلمات العربية التي تم تمريرها إلى العثمانية التركية وفي وقت لاحق إلى التركية الحديثة لها جذور في اللغة الفارسية.
كانت الفارسية عند انتشار الإسلام (القرن السابع الميلادي) لغة الاتصال الموحدة، على الأقل، في غرب ووسط آسيا بشكل عام، في المجال الثقافي الإيراني، على وجه الخصوص. حتى الآن، هي اللغة المشتركة في نواح كثيرة عندما يتعلق الأمر بقراءة الروايات التاريخية عن الأتراك وعن شبه القارة الهندية، أو عندما يتعلق بالتواصل بين المواطنين في جميع أنحاء إيران الحديثة.
المجال الثقافي الإيراني أُعيد تشكيله في اتجاهين: من الخارج، من خلال القوى الاستعمارية القديمة والنظام المعاصر للدول القومية. ومن الداخل، من خلال تنوع سكانها. احتمال انقطاع العلاقات الداخلية كبير، إذا ما واصلت نفس الأعراق، والتي كانت تعيش معاً قبل تقسيم المجال الثقافي الإيراني سياسياً، تبنيها رواية “نحن ضدهم”، أي الإيرانيين مقابل الأفغان والطاجيك والأذربيجانيين والأوزبك والعراقيين والباكستانيين، وهلم جرا. إساءة استخدام مفاهيم الهوية و”الآخرين” الإثنية القديمة، الانتماءات اللغوية والدينية هي موضوعات يجب أن يتم تناولها من قبل الحكومات وليس فقط من قبل منحة جامعية في إختصاص الدراسات الإيرانية.
الاستنتاج
كلمة إيران مشتقة حرفياً من “aryanam”، ثم تطورت لتصبح “إران” وأصبحت في وقت لاحق إيران، جغرافيا، تبدأ إيران القومية من المرتفعات الشرقية في أفغانستان والأجزاء الغربية من باكستان، وتنتهي حيث تنبسط في العراق. وجهة النظر هذه، تذكرنا بالحنين إلى الماضي، وذلك ليس بخطأ كبير. ولكن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار جميع اللغات التي وجدت قبل ترسيم الحدود السياسية كمثال، فإننا سوف نكون قادرين على اكتشاف تلك اللغات مرة أخرى. يجب أن نفكر في التاريخ المشترك للشعب الفارسي في أفغانستان وطاجيكستان وإيران وخارجها. لماذا يعتبر الإيرانيون كافة الشعراء والشعر والأدب والعلماء والفلاسفة في العصور الوسطى كإيرانيين دون أي اعتبار لتشارك هذه التركة مع الفرس في الدول الأخرى؟ أين هو مركز “عالم القومية الفارسية”؟ من الذي لديه الحق بأن يطلق على نفسه / نفسها صفة الفارسي وبأن يصف الآخرين بالغرباء؟
من الضروري التركيز على المفاهيم الإثنية والدينية والثقافية واللغوية الخاطئة الحالية في شمال أفريقيا وغرب ووسط آسيا. لقد تسببت هذه المفاهيم الخاطئة في الأمس، ومازالت تسبب إلى اليوم صراعات غير مجزية. عمليات الهندسة الاجتماعية، وفقاً لكارل بوبر، لم تنجح في مسعاها بإعادة توجيه العقل بالطريقة التي حدثت في أكبر عالم ذو غالبية مسلمة.
في القرن العشرين كانت إيران الدولة الوحيدة التي تعمل على إنقاذ التراث الفارسي من الأدب والشعر. في المقابل في أفغانستان، كان الشعب الفارسي (ما يسمى بالطاجيك) مظلوماً في لغته بسبب السياسات اللغوية هناك، حيث تم تغيير اسم اللغة من “الفارسية” إلى “الداري” بموجب دستور عام 1964. سارت هذه الخطوة عكس تيارات وطبيعة جذور لغة خُراسان الخاصة بهم. اليوم، يستعيد الفرس من بلدان أخرى حقهم من الإرث الإيراني والفارسي. وكما كما قالت الباحثة سفر عبد الله : “إيران المعاصرة هي جزء من ثقافتها”.
همايون علم
زميل باحث في مركز أبحاث فرانكفورت قسم العالم الإسلامي في معهد غوته في فرانكفورت. دكتورة في الثقافة الإسلامية وإيران والثقافة الفارسية.