الاشتغال على موضوع المثقف العربي بمثابة تحد كبير، لأن درجة عدم التأكد كبيرة ومستوى المخاطرة أكبر. فالقيام بدراسة حول موضوع المثقف العربي أشبه بالخوض في حقل مليء بالألغام أي نبش فيه قد ينجر عنه انفجار (في أي لحظة وفي أي مكان غير متوقع). فباستثناء استجابة مجموعة من المثقفين العرب (المقيمين في الدول العربية أو في المهجر) والذين أشهد بتعاونهم ومساهمتهم معي، فان النسبة الغالبة من مفردات العينة التي تعاملت معها طيلة العام الماضي جعلتني على أهبة الاستعداد كي أوقف العمل على هذا البحث الذي أخذ من جهدي ووقتي الكثير؛ خصوصا وأنني طيلة سنة تقريبا اكتشفت من خلال تواصلي مع عينة الدراسة أن المثقف في العالم العربي كائن معقد (مريض) ومتوجس وغريب الأطوار وعدواني. هذا المثقف الذي أضحى في الكثير من الأحيان يشكل خطرا على نفسه وعلى غيره، وهو ما ساهم بدرجة كبيرة في اتساع الفجوة بين المثقف العربي وبين المجتمع وبقاء المثقف العربي حبيس أوهام غذها بهوسه وبسلوكياته المتناقضة مع الدعوات التي يبشر بها.
[one_fourth_last padding=”0 10px 0 10px”][/one_fourth_last]من بين أهم ما أظهرته نتائج الدراسة التي قمت بها هو تلك الفجوة الحاصلة بين المثقف العربي والمجتمع، والتي تكمن في العلاقة غير السوية (علاقة معتلة) مع مجتمعه وصعوبة وضعف تعامله معه، وكذلك عجزه عن إدراك التحديات والتحولات التي يمر بها مجتمعه؛ ففي الكثير من الحالات نجد المثقف العربي في واد ومجتمعه في واد آخر. وهذا ما يظهر جليا من خلال طبيعة ونوع المواقف التي يبديها المثقف تجاه القضايا الحساسة والجوهرية التي تمس مجتمعه في الصميم، فالمثقف العربي فشل في أن يؤدي دوره على أكمل وجه وأن يتحمل مسؤوليته تجاه ما يحدث في مجتمعه خصوصا في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها المنطقة ككل، بل أصبح مجرد تابع يمشي في آخر الركب. وهذا الوضع البائس دفع الكثير من المحللين لتحميله مسؤولية كل الإخفاقات والأزمات.
الحديث عن مدى وجود المثقفين العرب من عدمه في عصر العولمة، يظهر جاليا من خلال العجز في إيصال صوت المثقف العربي إلى كل العالم، والمكانة التي يحتلها مقارنة مع المثقف الغربي هذا من جهة. ومن جهة أخرى وجد المثقف العربي نفسه عاجزا أمام انتشار ثقافة العولمة وشيوع ثقافة الاستهلاك، فالمثقف العربي ليس له وجودا ملموسا أمام سطوة معاير ثقافة العولمة الجارفة. وهذا راجع لضعف فعالية أهدافه وعدم فاعلية وسائله أمام قوة العولمة وسيطرة معايير الثقافة الاستهلاكية، وعجزه عن المساهمة في تجديد الثقافة العربية والإسلامية بما من شأنه أن يجعل منها عاملا يدفع نحو التنمية والمساهمة الايجابية (بأفكاره الخلاقة ومفاهيمه المبدعة) في تغيير الواقع وفي الحضارة الإنسانية ككل.
كما أن نسبة مهمة من المثقفين العرب لديهم خشية من المراجعات الفكرية لإرثهم الثقافي، ويرجع السبب الجوهري لذلك إلى النرجسية وتضخم الايدولوجيا، وهكذا راحت المجتمعات العربية والإسلامية وفق وصف أركون تدخل في ما يعرف “بالسياج الدوغمائي المغلق”.
لذلك من المهم الدعوة إلى مراجعة هذا الإرث الثقافي الإسلامي أو القومي… الخ من دون التعارض والتصادم مع المبادئ العامة، وهذا ما يتطلب من المثقف العربي إخضاع التاريخ إلى قراءة نقدية شاملة، خصوصا تلك المقولات الخاطئة والأفكار المسبقة من الآخر المتقدم، فنحن بحاجة إلى حركية فكرية تؤسس لحوار ايجابي مع مختلف الحضارات البشرية شرقية كانت أم غربية.
لقد انخرطت نسبة مهمة من المثقفين العرب في الإعلام، وخصوصا المرئي منه على حساب الثقافة، لكن المفارقة تكمن في عجز المثقف عن التمسك بالفكر النقدي الحر أمام استراتيجيات المؤسسات الإعلامية وسلطة مديريها وقوة رأس المال. وما يؤخذ كذلك على وسائط الميديا الجماهرية تركيزها على البرامج السطحية والاستهلاكية غير الهادفة، في حين تخصص للبرامج الثقافية الجادة مساحة محدودة وضعيفة. والسبب الذي يقف خلف توجه نسبة مهمة من المثقفين العرب نحو وسائل الميديا يكمن أساسا في ضعف الجاذبية الاقتصادية للكتابة والتأليف والبحث مقارنة بما توفره وسائل الإعلام من عوائد مادية ومالية مجزية، وكذلك من مكانة وشهرة في المجتمع.
توصلت الدراسة إلى العديد من الفجوات في مسؤوليات وأدوار المثقفين العرب، ومن بين أهم هذه الفجوات: الفجوة بين المثقف والسلطة، وتحت هذه الفجوة نجد مشكلة “المثقف الموظف”؛ والمقصود به مثقف السلطة، أو المثقف الانتهازي الذي يتبع مصالحه ويميل أين مالت الريح، ولا يهمه ما يؤمن به من أفكار بقدر ما تهمه المكاسب المحصلة من تماهيه مع ما تمليه عليه السلطة. فهو غير مستقل ولا موقف له، وبمثابة أداة ترويج وتسويق لبرنامج وإيديولوجية النظام الحاكم حتى وان كانت تخالف معتقداته وتتناقض مع ما يؤمن به.
أثبت الكثير من الوقائع التاريخية أن السلطة في عالمنا العربي (في غالب الأحيان) لم تعترف بالقيمة الحقيقية للمثقف العربي ولم تقدر مواقفه وأدواره كما ينبغي. فأتبعت مع المثقفين العرب سياسة العصا والجزرة؛ فهي تغدق بالتكريم والعطاء على المثقف الموالي وترفع عصا الطاعة في وجه المثقف المعارض، مما دفع بنسبة مهمة من المثقفين العرب إلى الانتقال من ضفة المعارضة إلى ضفة السلطة (التي لم تعترف بهم) بعد أن كابدوا إرهابها وتنكيلها وتعذيبها وسجنها.
[starbox id=”none”]