عنوان المقالة هنا مستوحى من العبارة الشعبية القائلة: من الزنار وتحت، وهي العبارة التي تشير عادةً إلى المستوى الهابط أخلاقياً لخطابٍ ما أو لذهنيةٍ فكريةٍ ما. فكما أنه ثمة ما هو تحت الزنار؛ هناك أيضا ما هو تحت العقل، والذي يحيل، في هذا السياق، على الانحطاط المعرفي.
وغريبة هي علاقة الأخلاق بالمعرفة، إذ ينسب لسقراط الحكيم فكرة مفادها أن الخير معرفةٌ، وأن الشر جهلٌ، وأن الانسان لا يفعل الشر إلا لجهله بالخير. كما ينسب الى شيخ الفلاسفة أفلاطون أنه شبّه فضيلة العدالة بعربة يجرها بغلان (وقيل حصانان) يمثلان قوتين نفسيتين هما القوة الغضبية وفضيلتها الشجاعة، والقوة الشهوانية وفضيلتها العفة؛ وتخضع هاتان القوتان، أو ينبغي أن تخضعا، للقوة العقلية وفضيلتها الحكمة.
وإذا كانت الفضيلة وسطاً بين رذيلتين كلتاهما إفراط أو تفريط، كما يقول فضيلة الفيلسوف أرسطو، تصبح الحكمة حينها هي الفضيلة ذاتها. فما من شجاعة إلا بانسجام القوة الغضبية مع العقل الذي يحدد لها ما ينبغي عليها فعله، ومتى وكيف ينبغي أن يتم هذا الفعل؛ فالشجاعة هي فعل ما ينبغي فعله. وتوازن الإفراط والتفريط هذا هو وسطية حكمت نظريتنا الأخلاقية الإسلامية حتى قيل إننا أمةٌ وسطٌ، وإن خير الأمور أواسطها. وما من وسطية حقيقة إلا بعقل يضبط “بغال” العربة في سيرها نحو وجهتها الفعلية.
ولأن الخير معرفة، فقد سمى المسلمون الأوائل حقبة مكارم الأخلاق الناقصة ﺑـ “الجاهلية”، وحقبة أخلاق يقودها الرشد ﺑـ “الإسلام” الذي قيل فيه إنه ثورة أخلاقية على الجهل، وثورة معرفية على الظلم. و”الثورات بالثورات تذكر”، فنحن اليوم نعيش ثورة على نظامٍ جعلنا نعيش أبديتين متتاليتين في وطنٍ يُقاد بذهنية الاستبغال، عبر قوتين، شهوانية وغضبية، أفرط باستخدامهما واضعاً العقول رهن الإقامة الجبرية. وأدت سياسة اللبط السياسي، والجشع للاستفراد، إلى إفقار البلاد معرفياً وأخلاقياً وحتى روحياً، لتتحول كل الأماني وكل التطلعات لدينا، بوصفنا شعباً، الى مكبوتاتٍ نفسيةٍ أخذت تتخمر في دهاليز تحت العقل في حاضنةٍ لاشعوريةٍ، تغيب عنها رقابة الوعي الحكيم والوجدان الأخلاقي.
وهكذا، عندما سقطت سطوة البغال الخارجية فجأة، خرجت مكبوتاتنا المقموعة دفعة واحدة في تصعيداتها الفنية الغنائية الاستعراضية الاحتجاجية الجميلة حيناً، وفي شحيجات (جمع شحيج: صوت البغال) عنترية منتقلة بعدوى البغلية التي نثور عليها، أو كرواسب لموروث الاستبغال الذي دخلت قيمه إلى لاوعينا الجمعي لتعيق عملية استرجاع أنانا المقصية. وكنا محكومين منذ البداية في خروجنا عن زنازين مكبوتاتنا بتمايزنا عن نظام الاستبغال، فقابلنا طائفيته بالوحدة الوطنية، وعنفه بالسلمية، وأنانيته بالجمعية، إلى أن راح يبحث في مكبوتاتنا عن شيء يشبهه.
ونظراً إلى أنه للإنسان حدود في صبره وفي قدرته على تحمل الضيم، فقد بالغ النظام في ضيمه حداً، تجاوز كل عتبات التحمل، فكان له ما أراد بأن حمل الناس السلاح دفاعاً عن النفس، مستدعية ما لديها من قوة غضبية. وكان بالحسبان حقيقة عنف النظام في بلوغه عتبة اللااحتمال، ولكن الذي لم يكن بالحسبان شهوانية المعارضة المنفلتة من كل عقال، والتي حولت محنة الناس الدموية في صراعها مع عدمية العسكر إلى سجالات ترفية بين من يمثل الشعب أكثر، وبين من هو قاعد في بيته بالداخل السوري وبين من هو قاعد في بيته في الخارج، وبين يسار ويمين، بينما لا يميز النظام في قطعه لأعضاء الأطفال بين يسراهم ويمناهم.
وانفجرت مكبوتات رجال الدين التي فهمت، في سنيتها وفي شيعتها، دينها على أنه طلاق مع العقل، لتزيد الطين بلة في محنتنا، ولتحرض، في فتاويها الاستبغالية، على فتنة طائفية، ولتحوّل مطالب التحرر إلى صراع عمائم، ولتضيع بين تكفير وتكفير مضاد، متناسية مطالب الناس الوجودية وهي بأن يعيشوا أحراراً كرماء. وهكذا يبدوا أنه علينا اليوم أن نستعيد زمام الأمور في حذرنا من كل عمليات الاستبغال العسكرية والأيديولوجية والدينية، وفي ترجمة مكبوتاتنا، لننتقل من احتجاج بَوحيٍّ سخطيٍّ، إلى مطالب سياسيةٍ مصاغة بقيم التحرر والعدالة الاجتماعية والاستقلال عن كل وصاية؛ بعدما اكتشفنا، في لحمتنا الداخلية، أن العقل ليس محض إدراك معرفي، بل هو فعلُ تعاضدٍ إنسانيٍّ أخلاقيٍّ مناقضٌ، تماماً وبالكامل، لذهنية الاستبغال.
أحمد اليوسف، كاتب سوري دكتورة في الفلسلفة.