نجا سلام من رحلته المحفوفة بالمخاطر من مصر لأوروبا, بعد أن فرّ من الحرب في موطنه, سوريا. شعر الواصل الجديد بالقلق عندما قابل رجالاً بلحى كثة طويلة في مسجد قرب مكان إقامته في مدينة كولونيا شهر نوفمبر الماضي.
مظهر هؤلاء الرجال ذكّره بعناصر جيش الإسلام, مجموعة إسلامية من الثوار تسيطر على مدينته قرب دمشق. يقول سلام الذي يبلغ من العمر 36 عاماً والذي لديه شارب دون لحية, أن أحد الرجال في المسجد قال له “أن المسلم الجيد يرخي لحيته دون شاربه.” ذكّرته تلك الكلمات بالكثير من الأفكار التي خلفها ورائه.
“هذا المسجد جعلني أشعر بالاضطراب“, يقول سلام.
يقول سوريون مقيمون في ألمانيا أن الكثير من المساجد العربية في ألمانيا هي أكثر تشدداً من المساجد في بلادهم.
في فترة شهرين فقط, وردت ست حالات لسوريين مقيمين في ثلاث مدن مختلفة يخبرون فيها صحفيين لوكالة رويترز أنهم لا يشعرون بالارتياح للرسائل المتشددة التي يجدونها في المساجد العربية في مدن إقامتهم. تعرض المصلون الجدد للانتقاد بسبب طريقة لباسهم وموقفهم من الشعائر الدينية, أصرّ المنتقدون أن القرآن يجب أن يُفسر حرفياً.
تعتبر هذه القضية موضوعاً شائكاً في بلدٍ يعيش بالأصل تعقيدات سياسية واجتماعية بسبب أزمة تدفق اللاجئين لأوروبا. مكّن حزب “البديل لألمانيا” (AFD) قاعدة أصواته من خلال آراء شعبوية تقول بعدم توافق الإسلام مع الدستور الألماني. وقعت عدة هجمات إرهابية على يد مسلحين مسلمين, فيما يقول الشهود السوريون أن مشكلة المساجد تزيد من أزمة الثقة بالمجتمع المسلم.
تدعم الدولة في ألمانيا معتقدات تقليدية مرتبطة بتاريخ البلاد. في ألمانيا أربعة ملايين مسلم, معظهم قادمون من تركيا ويمارسون عباداتهم في مساجد مدعومة من الحكومة التركية.
دخل ألمانيا العام الماضي حوالي 890 ألف طالب لجوء, 70% منهم مسلمون. ثلث هؤلاء تقريباً من سوريا. الكثيرون لا يرغبون بالذهاب للمساجد التركية لعدم قدرتهم على فهم الشعائر فيها, لذلك يفضّلون الذهاب حيث تقام الشعائر باللغة العربية.
تزيد الأعباء المادية من مشاكل هذه المساجد, فهي غالباً ما ينقصها التمويل, هذا في حال لم تكن مدعومة من المملكة العربية السعودية أو أحد دول الخليج. بعضهم يدفعه التمويل لدعم تفاسير متشددة للقرآن, تفاسير تغازل العقلية الوهابية أو السلفية التي يتبناها الممولون.
“إنه لمن المؤسف أن هذا الأمر حقيقي, المساجد العربية أكثر تطرفاً من المساجد التركية,” يقول البروفسور مهند خورشيد الذي يترأس مركز الدراسات الإسلامية في جامعة مونستر. هذا الواقع يضع عائقاً أمام احتواء المسلمين الأقل تطرفاً في هذه المساجد. “كيف سنتمكن من استيعاب هؤلاء الناس إذا كانوا مهتمين بدينهم؟ كلما ازدادت الحاجة ملئ السلفيون الفراغ الناتج,” يقول خورشيد.
إسلامية صرفة
يعيش سلام في كولونيا جواً عائلياً مع 75 من السوريين في أحد الفنادق. امرأة واحدة فقط تصلي في المسجد العربي القريب. “طلب أحد السلفيين من شاب عربي مغادرة المسجد لأنه كان يرتدي بنطالاً قصيراً (الشورط),” أضاف سلام,”في المسجد التركي لا أحد يكترث ماذا ترتدي.”
احتشد حوال المئتي رجل في غرفة خالية من الشبابيك داخل المسجد العربي يوم الجمعة من شهر آب لأداء صلاة الفريضة, بينهم حوالي العشرين من الرجال ذوي الذقون الكثة والشوارب الحليقة, مظهر يتسم به المتشددون من المسلمين.
وبّخ أحد المصلين ثلاث شبان لبنانيين لأنهم ألقوا التحية عليه عند دخولهم المسجد أُثناء الخطبة, صارخاً بوجههم “جمعتكم باطلة,” رافعاً يده وهو يشير بأصابعه أن عملهم أصبح هباءً.
يقول إمام المسجد أن مجتمعهم ليس سياسياً ولا عنفياً. وعند سؤاله عن السوريين الذين لم يشعروا بالراحة في المسجد قال: ” إنه لشرفٌ لنا أن نوصف بالسلفيين, نحن مهتمون بإعطاء أعضاء مجتمعنا تعاليم إسلامية خالصة.”
على الرغم من عدم فهمه للخطبة في المسجد التركي, يقول سلام أنه بدأ بالذهاب إليه والصلاة فيه بدلاً من المسجد العربي.
عملية غسل للدماغ
في مسح أجراه مركز العلووم الأجتماعية في برلين (WZB) الممول من الحكومة الألمانية على المسلمين والمسيحيين في أوروبا, تبيّن أن الأصولية الإسلامية أقل انتشاراً في ألمانيا, رغم انتشارها الواسع. فعلى سبيل المثال, نصف المسلمين المشاركين في المسح في ألمانيا شعروا أن القوانين الدينية أكثر أهمية من القانون المدني.
رصدت أجهزة الأمن الألمانية أكثر من 320 حالة حاول فيها سلفيون مسلمون التواصل مع لاجئين العام الماضي, غالباً بتوفير الغذاء, الملبس, ونسخاً مجانية للقرآن, في محاولة لمساعدة طالبي اللجوء على العيش في المخيمات.
أقدم سوري على الانتحار في زنزانته هذا الشهر, بعد اعتقاله للاشتباه بتخطيطه تفجير مطار في ألمانيا. قال أخوه وأحد أصدقائه أنه تعرض لـ“غسل للدماغ” على يد أئمة متشددين في برلين.
قدمت أجهزة الأمن المعلومات للسلطات المحلية في مخيمات اللجوء بالقرب من المساجد المحسوبة على السلفيين والوهابيين. نحن على دراية ب90 مسجداً على الأقل حيث تتم نشاطات موجهة للاجئين. هذه المساجد بالغالب مساجد عربية متأثرة بالسلفية” يقول هانس جورج ماسن رئيس المكتب الفدرالي لحماية الدستور.
صُدم “عبد” الواصل لألمانيا عام 2014 بالتفسيرات المتشددة للقرآن والحديث في مسجد النور في برلين الذي يشرف عليه الوهابيون. يذكر حديثاً من أول خطبة جمعة حضرها في المسجد:”كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.”
“لم أسمع هذا الحديث من قبل في سوريا,” يقول الأب لثلاثة أطفال وهو ابن 42 ربيعاً. “إن الرسالة واضحة وهي موجهة لنا نحن المسلمون, (إياكم والتجرؤ على تفسير دينكم, خذوا القرآن كلمة بكلمة), هذه مشكلة كبيرة.” يقول عبد أنه قرر أن يأخذ ما يناسبه من الصلاة والخطبة ويترك الباقي.
على الرغم من أن المسؤولين الألمان لا يرون أنّ كل سلفي هو عنفوي بالضرورة, يقلق بعض السوريين أنهم إذا استمروا بالذهاب للمساجد العربية فإنهم قد يصنّفوا على أنهم متطرفين.
يقول أبو محمد, كردي سوري, أنه تجنب الذهاب للمسجد منذ وصوله لألمانيا منذ عامين لأن والديه الذين قدموا قبله بعقد من الزمن أخبروه أن الذهاب للمسجد لا يمكن أن يجلب سوى المتاعب.
فجوة التمويل
قد تكون الانشقاقات والفرقة التي تحكم الواقع الإسلامي أصل المشكلة, ولكنها تستفحل أكثر عند مواجهتها بواقع تفاصيل التمويل للمؤسسات الدينية في ألمانيا. فمنذ بداية القرن العشرين, تجمع الحكومة الألمانية ضريبة للعبادة الدينية, وتوزعها على المؤسسات الدينية الكاثوليكية والبروتستانية واليهودية.
لا يستفيد المسلمون من هذا المنح, لأن المنظمات الإسلامية الأربع التي تمثل المجتمع المسلم في ألمانيا ترفض الاندماج في كيان ديني واحد, شرطٌ لا يمكن التخلي عنه للحصول على التمويل الحكومي.
“غالب التجمعات الإسلامية لا تستطيع تأمين مسجد مناسب…وغالبهم يعجزون عن تأمين إمام متعلم ليخدم تجمعهم,” يقول دانيال عابدين, عضو رئاسة مجلس الشورى في هامبورغ, وهي منظمة معنية بشؤون المجتمع المسلم في المدينة. “ينتهي بنا المطاف مع إمام متواضع المعرفة, وأحياناً دون أية معرفة, بالتشاريع الإسلامية المعاصرة.”
أنشأت الحكومة الألمانية منذ خمسة أعوام, و بتمويل قدره 22 مليون يورو, خمسة مراكز دراسات إسلامية لتدريب الأئمة ومعلمي الديانة الإسلامية: برنامج رعته وزارة التعليم الألمانية. نجحت الاستراتيجية بشكل جزئي, حيث يتم تدريس مادة الإسلامية للتلاميذ في العديد من المدارس. ولكن القليل من الـ1800 طالب الذين تخرجوا من هذه المراكز ذهبوا بالفعل ليكونوا أئمة في المجتمعات المحلية.
على الرغم من ذلك, لا يزال خورشيد وخبراء إسلام آخرون متفائلين أن تدفق طالبي اللجوء المسلمين الحاملين لعقلية منفتحة من شأنه أن يقدم فرصة للترويج لأفكار إسلامية أكثر اعتدالاً في المساجد العربية.
يقول أبو محمد المقيم في هامبورغ أنه توقف عن الذهاب للمسجد, “أصلي في البيت, أنا واثق أن الله يستجيب.”
ترجمة: مصطفى قره حمد
المادة في اللغة الإنكليزية هنا